التفاسير

< >
عرض

لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي ٱلأَمْرِ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ
٦٧
-الحج

التحرير والتنوير

هذا متصل في المعنى بقوله: { { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم } [الحج: 34] الآية. وقد فُصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله: { { وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا } [الحج: 37ــــ38] إلى هنا، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله: { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله } [الحج: 34] الآية ليبنى عليه قوله: { فلا ينازعنك في الأمر }. فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة، بأن الله ما جعل لأهل كلّ ملة سبقت إلا مَنسكاً واحداً يتقرّبون فيه إلى الله لأنّ المتقرّب إليه واحد. وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكلّ صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعُزّى، قال النّابغة:

وما هُريق على الأنصاب من جَسَد............

(أي دم). وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: { { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكُروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا } [الحج: 34] كما تقدم آنفاً.

فالجملة استئناف. والمناسبة ظاهرة ولذلك فُصلت الجملة ولم تعْطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة.

والمنسَك ــــ بفتح الميم وفتح السين ــــ: اسم مكان النّسُك بضمهما كما تقدّم. وأصل النُّسك العبادة ويطلق على القربان، فالمراد بالنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان. والضمير في { ناسكوه }منصوب على نزع الخافض، أي ناسكون فيه.

وفي «الموطأ»: «أن قريشاً كانت تقف عند المَشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعَرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فقال الله تعالى: { لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه } الآية، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اهــــ.

قال الباجي في «المنتقى»: «وهو قول ربيعة». وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه، أي نزلت في سنة تسع، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة.

وفرّع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها، فالنهي ظاهره موجّه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ما أعطيه من الحجج كافٍ في قطع منازعة معارضيه، فالمعارضون هم المقصود بالنهي، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحجج وُجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل: فلا تترك لهم ما ينازعونك به، وهو من باب قول العرب: لا أعْرِفَنّك تفعل كذا، أي لا تَفْعل فأعرِفك، فجعل المتكلم النهي موجهاً إلى نفسه، والمراد نهي السامع عن أسبابه، وهو نهي للغير بطريق الكناية.

وقال الزجاج: هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله، فيصحّ نهي كل من الجانبين عنه. وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن منازعته إياهم التي تفضي إلى منازعتهم إياه فيكون النهي عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله. وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعدما سيق لهم من الحجج.

واسم { الأمر } هنا مجمل مراد به التوحيدُ بالقرينة، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملّة إبراهيم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر الحَجّ الذي هو من مناسكهم، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملّة إبراهيم، فكان قوله تعالى: { لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه } كشفاً لشبهتهم بأن الحج منسك حقّ، وهو رمز التوحيد، وأن ما عداه باطل طارىء عليه فلا ينازعُنّ في أمر الحجّ بعد هذا. وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله { { وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير } [الحج: 72]، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مُقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بها وبالمدينة في أول مُقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ، فيبعد تفسيرُ المنازعة بمنازعة أهل الكتاب.

وقوله { وادع إلى ربك } عطف على جملة { فلا ينازعنك في الأمر }. عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمرٌ بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجّة لأن المُكابرة تجافي الاقتناع، ولأنّ في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين، وفي حذف مفعول { ادع }إيذان بالتّعميم.

وجملة { إنك لعلى هدى مستقيم } تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لردّ الشك. و{ على }مستعارة للتمكن من الهدى.

ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية؛ شبه الهُدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورُمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالاً، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان. وفي هذا الخبر تثبيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة.