التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ
١٢
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
١٣
ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ
١٤
-المؤمنون

التحرير والتنوير

الواو عاطفة غرضاً على غرض ويسمى عطف القصّة على القصّة، فللجملة حكم الاستيناف لأنها عطف على جملة { { قد أفلح المؤمنون } [المؤمنون: 1] التي هي ابتدائية وهذا شروع في الاستدلال على انفراد الله تعالى بالخلق وبعظيم القدرة التي لا يشاركه فيها غيره، وعلى أن الإنسان مربوب لله تعالى وحده، والاعتبار بما في خلق الإنسان وغيره من دلائل القدرة ومن عظيم النعمة. فالمقصود منه إبطال الشرك لأن ذلك الأصل الأصيل في ضلال المعرضين عن الدعوة المحمدية، ويتضمن ذلك امتناناً على الناس بأنه أخرجهم من مهانة العدم إلى شرف الوجود وذلك كله ليَظهر الفرق بين فريق المؤمنين الذين جَروا في إيمانهم على ما يليق بالاعتراف بذلك وبين فريق المشركين الذين سلكوا طريقاً غير بينة فحادوا عن مقتضى الشكر بالشركِ.

وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق مراعًى فيه التعريض بالمشركين المنزّلين منزلة من ينكر هذا الخبر لعدم جريهم على موجب العلم.

والخَلق: الإنشاء والصنع، وقد تقدم في قوله: { { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } في آل عمران (47). والمراد بالإنسان يجوز أن يكون النوعَ الإنساني، وفسر به ابن عباس ومجاهد، فالتعريف للجنس. وضمير { جعلناه } عائد إلى الإنسان.

والسّلالة: الشيء المسلول، أي المنتَزع من شيء آخر، يقال: سَللت السيف، إذا أخرجته من غمده، فالسلالة خلاصة من شيء، ووزن فُعَالة يؤذن بالقلة مثل القُلامة والصُبابة.

و{ من } ابتدائية، أي خلقناه منفصلاً وآتيا من سلالة، فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما.

وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دماً؛ فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل (الأنثيين) تفرز منه الأنثيان مادة دُهنيَّة شحميَّة تحتفظ بها وهي التي تتحوّل إلى منيّ حين حركة الجماع، فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض. ودم المرأة إذا مر على قناة في الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بَذر الأجنة. ومن اجتماع تلك المادة الدُهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكوّن الجنين فلا جرم هو مخلوق من سُلالةٍ من طينٍ.

وقوله { ثم جعلناه نطفة في قرار مَكين } طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السُلالتين في الرحم. سميت سُلالة الذكر نطفة لأنها تنطُف، أي تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو القرار المكين.

فــــ{ نطفةً } مَنصُوبٌ على الحال وقوله: { في قرار مكين } هو المفعول الثاني لــــ{ جعلناه }. و{ ثم } للترتيب الرتبي لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة. فضمير { جعلناه } عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة، فالمعنى: جعلنا السلالة في قرار مكين، أي وضعناها فيه حفظاً لها، ولذلك غُير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي بــــ(في) بمعنى الوضع.

والقرار في الأصل: مصدر قَرّ إذا ثبت في مكانه، وقد سمي به هنا المكان نفسُه. والمكين: الثابت في المكان بحيث لا يقلع من مكانه، فمقتضى الظاهر أن يوصف بالمكين الشيءُ الحالّ في المكان الثابت فيه. وقد وقع هنا وصفاً لنفس المكان الذي استقرت فيه النطفة، على طريقة المجاز العقلي للمبالغة، وحقيقتُه مكين حالُّه، وقد تقدم قوله تعالى: { { أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة } في سورة الكهف (37) وقوله: { { فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة } في سورة الحج (5).

ويجوز أن يراد بالإنسان في قوله: { ولقد خلقنا الإنسان } آدم. وقال بذلك قتادة فتكون السّلالة الطينَةَ الخاصةَ التي كوّن الله منها آدم وهي الصلصال الذي ميزه من الطين في مبدإ الخليقة، فتلك الطينة مسْلولة سلاّ خاصّاً من الطين ليتكوّن منها حيٌّ، وعليه فضمير { جعلناه نطفة } على هذا الوجه عائد إلى الإنسان باعتبار كونه نسلاً لآدم فيكون في الضمير استخدام، ويكون معنى هذه الآية كمعنى قوله تعالى: { { وبدَأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } [السجدة: 7، 8].

وحرف (ثم) في قوله: { ثم خلقنا النطفة علقة } للترتيب الرتْبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجبَ من خلق النطفة إذ قد صُير الماء السائل دَماً جامداً فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عواملَ أودعها الله في الرحم.

ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلَقة فإنه وضْع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم، والعلقة: قطعة من دم عاقد.

والمضغة: القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ. وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين.

وعطف جَعل العَلقةِ مُضغةً بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طورٍ مدة طويلة.

وخلق المضغة عظاماً هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم، وقد دل عليه قوله: { فكسونا العظام لحماً } بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف { فخلقنا المضغة } بالفاء.

فمعنى { فَكَسَوْنا } أن اللحم كانَ كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حيناً غير مكسوة، وفي الحديث الصحيح: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثلَ ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملَك فَيَنْفُخُ فيه الروحَ" الحديث، فإذا نُفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى: { ثم أنشأناه خلقاً آخر } لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خَلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء. وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء بــــ(ثم) الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل بــــ(ثم).

وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلِّق حياً، وفي «شرح الموطأ»: «تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعليٌّ حاضر فقال لهما عمر: ما هذه المناجاة؟ فقال أحدهما: إن اليهود يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال علي: لا تكون موءودة حتَّى تمرّ عليها التارات السبع { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الآية، فقال عُمرُ لعليّ: صدقت أطال الله بقاءك». فقيل: إن عمر أول من دعا بكلمة «أطال الله بقاءك».

وقرأ الجمهور { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام } بصيغة جمع { العظام } فيهما. وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم { عظماً.. والعَظْمَ } بصيغة الإفراد.

وفُرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه { أحسن الخالقين } أي أحسن المنشئين إنشاءً، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه.

ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقاً من البركة وهي الزيادة.

وصيغة تفاعَل صيغة مطاوعة في الأصل، وأصل المطاوعة قبول أثر الفعل، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبساً مكيناً لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول فاعلاً فيقال: كسرته فتكسر، فلذلك كان تفاعَل إذا جاء بمعنى فَعَل دالاًّ على المبالغة كما صرح به الرضيّ في «شرح الشافية»، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالباً في نحو: تثنَّى. وتكبَّرَ، وتشامخ، وتقاعس. فمعنى { تبارك الله } أنه موصوف بالعظمة في الخير، أي عظمةِ ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم.

وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلاً لأن { تبارك } لما حذف متعلقه كان عاماً فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره. وكذلك حذف متعلق { الخالقين } يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات.