التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ
٣٣
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ
٣٤
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ
٣٥
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ
٣٦
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
٣٧
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
٣٨
-المؤمنون

التحرير والتنوير

عُطفت حكاية قول قومه على حكاية قوله ولم يؤت بها مفصولة كما هو شأن حكاية المحاورات كما بيناه غير مرة في حكاية المحاورات بــــ(قال) ونحوها دون عطف. وقد خولف ذلك في الآية السابقة للوجه الذي بيناه، وخولف أيضاً في سورة الأعراف وفي سورة هود إذ حكي جواب هؤلاء القوم رسولَهم بدون عطف.

ووجه ذلك أن كلام الملأ المحكيَّ هنا غير كلامهم المحكي في السورتين لأن ما هنا كلامهم الموجَّه إلى خطاب قومهم إذ قالوا: { ما هذا إلا بشر مثلُكم يأكل مما تأكلون منه } إلى آخره خشيةً منهم أن تؤثر دعوة رسولهم في عامتهم، فرأوا الاعتناء بأن يحولوا دون تأثر نفوس قومهم بدعوة رسولهم أولى من أن يجاوبوا رسولهم كما تقدم بيانه آنفاً في قصة نوح.

وبهذا يظهر وَجه الإعجاز في المواضع المختلفة التي أورد فيها صاحب «الكشاف» سؤالاً ولم يكن في جوابه شافياً وتحيّر شراحه فكانوا على خلاف.

وإنما لم يعطف قول الملأ بفاء التعقيب كما ورد في قصة نوح آنفاً لأن قولهم هذا كان متأخراً عن وقت مقالة رسولهم التي هي فاتحة دعوته بأن يكونوا أجابوا كلامه بالرد والزجر فلما استمر على دعوتهم وكررها فيهم وجهوا مقالتهم المحكية هنا إلى قومهم ومن أجل هذا عطفت جملة جوابهم ولم تأت على أسلوب الاستعمال في حكاية أقوال المحاورات.

وأيضاً لأن كلام رسولهم لم يُحك بصيغة القول بل حكي بــــ(أنْ) التفسيرية لِمَا تضمنه معنى الإرسال في قوله: { { فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله } [المؤمنون: 32].

وقد حكى الله في آيات أخرى عن قوم هود وعن قوم صالح أنهم أجابوا دعوة رسولهم بالرد والزجر كقول قوم هود { { قالوا يا هود ما جئتنا بِبَيِّنَة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [هود: 53، 54]، وقول قوم صالح { { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } [هود: 62].

وقولُه { وقال الملأ من قومه الذين كفروا } { الذين كفروا } نعت ثان لــــ{ الملأ } فيكون على وزان قوله في قصة نوح { { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } [المؤمنون: 24]. وإنما أخر النعت هنا ليتصل به الصفتان المعطوفتان من قوله: { وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم }.

واللقاء: حضور أحد عند آخر. والمراد لقاء الله تعالى للحساب كقوله تعالى: { { واعلموا أنكم ملاقوه } في سورة البقرة (223) وعند قوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا إذا لَقِيتُم فِئَةً فاثبتوا } في سورة الأنفال (45).

وإضافة { لقاء } إلى { الآخرة } على معنى (في) أي اللقاء في الآخرة.

والإتراف: جعلهم أصحاب ترف. والترف: النعمة الواسعة. وقد تقدم عند قوله: { { وارْجِعُوا إلى ما أترِفْتم فيه } في سورة الأنبياء (13).

وفي هذين الوصفين إيماء إلى أنهما الباعث على تكذيبهم رسولَهم لأن تكذيبهم بلقاء الآخرة ينفي عنهم توقع المؤاخذة بعد الموت، وثروتهم ونعمتهم تغريهم بالكبر والصلف إذ ألِفوا أن يكونوا سادة لا تبعاً، قال تعالى: { { وذَرْني والمكذّبين أولي النعمة } [المزمل: 11]، ولذلك لم يتقبلوا ما دعاهم إليه رسولهم من اتقاء عذاب يوم البعث وطلبهم النجاة باتباعهم ما يأمرهم به فقال بعضهم لبعض { ولئن أطَعْتُم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون أيَعِدُكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مُخْرَجون }.

و{ ما هذا إلا بشر مثلكم } كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة لتوهمهم أن البشرية تنافي أن يكون صاحبها رسولاً من الله فأتوا بالملزوم وأرادوا لازمه.

وجملة { يأكل مما تأكلون منه } في موقع التعليل والدليل للبشرية لأنه يأكل مثلهم ويشرب مثلهم ولا يمتاز فيما يأكله وما يشربه.

وحذف متعلق { تشربون } وهو عائد الصلة للاستغناء عنه بنظيره الذي في الصلة المذكورة قبلها.

واللام في { ولئن أطعتم } موطّئة للقسم، فجملة { إنكم إذاً لخاسرون } جواب القسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم. وأقحم حرف الجزاء في جواب القسم لما في جواب القسم من مشابهة الجزاء لا سيما متى اقترن القسم بحرف شرط.

والاستفهام في قوله { أيعدكم } للتعجب، وهو انتقال من تكذيبه في دعوى الرسالة إلى تكذيبه في المرسل به.

وقوله { أنكم إذا متم } إلى آخره مفعول { يَعِدكم } أي يعدكم إخراجَ مُخرج إياكم. والمعنى: يعدكم إخراجكم من القبور بعد موتكم وفناء أجسامكم.

وأما قوله: { أنكم مخرجون } فيجوز أن يكون إعادة لكلمة (أنكم) الأولى اقتضى إعادتها بُعْد ما بينها وبين خبرها. وتفيد إعادتها تأكيداً للمستفهم عنه استفهام استبعاد تأكيداً لاستبعاده. وهذا تأويل الجرمي والمبرد.

ويجوز أن يكون { أنكم مخرجون } مبتدأ. ويكون قوله: { إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً } خبراً عنه مقدماً عليه وتكون جملة { إذا متم } إلى قوله { مخرجون } خبراً عن (أنّ) من قوله { أنكم } الأولى.

وجعلوا موجب الاستبعاد هو حصول أحوال تنافي أنهم مبعوثون بحسب قصور عقولهم، وهي حال الموت المنافي للحياة، وحال الكون تراباً وعظاماً المنافي لإقامة الهيكل الإنساني بعد ذلك.

وأريد بالإخراج إخراجهم أحياء بهيكل إنساني كامل، أي مخرجون للقيامة بقرينة السياق.

وجملة { هيهات } بيان لجملة { يَعِدُكم } فلذلك فُصلت ولم تعطف.

و{ هيهات } كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضاً. وقرأها الجمهور بالفتح. وقرأها أبو جعفر بالكسر. وتدل على البعد. وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثاً كما جاء في شعر لحُميد الأرقط وجرير يأتيان.

واختلف فيها أهي فعل أم اسم؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن (هيهات) اسم فعل للماضي من البُعد، فمعنى هيهات كذا: بعُد. فيكون ما يلي (هيهات) فاعلاً. وقيل هي اسم للبُعد، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في «تفسيره». قال الراغب: وقال البعض: غلط الزجاج في «تفسيره» واستهواه اللام في قوله تعالى: { هيهات هيهات لما توعدون }.

وقيل: هيهات ظرف غير متصرف، وهو قول المبرد. ونسبه في «لسان العرب» إلى أبي علي الفارسي. قال: قال ابن جني: كان أبو علي يقول في هيهات: أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل مثل صَهْ ومَهْ، وأُفتي مرة بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال.

وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل يوقف عليها هاء، وأنها لا تنون تنوين تنكير.

وقد ورد ما بعد (هيهات) مجروراً باللام كما في هذه الآية. وورد مرفوعاً كما في قول جرير:

فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهلُهُوهيهاتَ خِلّ بالعقيق نحاوله

وورد مجروراً بــــ(مِن) في قول حميد الأرقط:

هيهاتِ من مُصبَحها هيهاتِههياتِ حِجْرٌ من صُنَيْبِعَاتِ

فالذي يتضح في استعمال (هيهات) أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعاً على تأويل (هيهات) بمعنى فعل ماض من البُعد كما في بيت جرير، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجروراً باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق (هيهات) من الكلام لأنها لا تقع غالباً إلا بعد كلام، وتجعل اللام للتبيين، أي إيضاح المراد من الفاعل، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر. وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل. وإذا ورد ما بعدها مجروراً بــــ(مِن) فــــ(مِن) بمعنى (عن) أي بَعُد عنه أو بُعداً عنه.

على أنه يجوز أن تؤوّل (هيهات) مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنياً جامداً غير مشتق. ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره.

وجاء هنا فعل { توعدون } من (أوعد) وجاء قبله فعل { أيَعِدكم } وهو من (وَعَدَ) مع أن الموعود به شيء واحد. قال الشيخ ابن عرفة: لأن الأول: راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعداً، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد اهــــ.

وأقول: أحسن من هذا أنه عبَّر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك، فإن إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدّقوا وعلى وعيد إن كذّبوا، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازاً.

وقوله: { إن هي إلا حياتنا الدنيا } يَجوز أن يكون بياناً للاستبعاد الذي في قوله: { هيهات لما توعدون } واستدلالاً وتعليلاً له، ولكلا الوجهين كانت الجملة مفصولة عن التي قبلها.

وضمير { هي } عائد إلى ما لم يسبق في الكلام بل عائد على مذكور بعده قصداً للإبهام ثم التفصيل ليتمكن المعنى في ذهن السامع. وهذا من مواضع عود الضمير على ما بعده إذا كان ما بعده بياناً له، ولذلك يجعل الاسم الذي بعد الضمير عطف بيان. ومنه قول الشاعر أنشده في «الكشاف» المصراع الأول وأثبته الطيبي كاملاً:

هي النفس ما حملتها تتحملوللدهر أيام تجور وتعدل

وقول أبي العلاء المعري:

هو الهجر حتى ما يُلم خيالوبعضُ صدود الزائرين وصال

ومبيّن الضمير هنا قوله { إلا حياتنا } فيكون الاسم الذي بعد (إلا) عطف بيان من الضمير. والتقدير: إن حياتنا إلا حياتنا الدنيا. ووصفها بالدنيا وصف زائد على البيان فلا يقدر مثله في المبيَّن.

وليس هذا الضمير ضمير القصة والشأن لعدم صلاحية المقام له. ولأنه في الآية مفسَّر بالمفرد لا بالجملة وكذلك في بيت أبي العلاء.

ولأن دخول (لا) النافية عليه يأبى من جعله ضمير شأن إذ لا معنى لأن يقال: لا قصة إلا حياتنا، فدخلت عليه (لا) النافية للجنس لأنه في معنى اسم جنس لتبيينه باسم الجنس وهو { حياتنا }. فالمعنى ليست الحياة إلا حياتنا هذه، أي لا حياة بعدها.

والدنيا: مؤنث الأدنى، أي القريبة بمعنى الحاضرة.

وضمير { حياتنا } مراد به جميع القوم الذين دعاهم رسولهم. فقولهم: { نموت ونحيا } معناه: يموت هؤلاء القوم ويحيا قوم بعدهم. ومعنى { نَحْيَا }: نولد، أي يموت من يموت ويولد من يولد، أو المراد: يموت من يموت فلا يَرجع ويحيا من لم يمت إلى أن يموت. والواو لا تفيد ترتيباً بين معطوفها والمعطوف عليه. وعقبوه بالعطف في قوله: { وما نحن بمبعوثين } أي لا نحيا حياة بعد الموت.

وهو عطف على جملة { نموت ونحيا } باعتبار اشتمالها على إثبات حياة عاجلة وموت، فإن الاقتصار على الأمرين مفيد للانحصار في المقام الخطابي مع قرينة قوله: { إن هي إلا حياتنا الدنيا }. وأفاد صوغ الخبر في الجملة الاسميَّة تقوية مدلوله وتحقيقه.

ثم جاءت جملة { إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً } نتيجة عقب الاستدلال، فجاءت مستأنفة لأنها مستقلة على ما تقدمها فهي تصريح بما كني عنه آنفاً في قوله: { ما هذا إلا بشر مثلكم } وما بعده من تكذيب دعوته، فاستخلصوا من ذلك أن حاله منحصر في أنه كاذب على الله فيما ادعاه من الإرسال. وضمير { إن هو } عائد إلى اسم الإشارة من قوله: { ما هذا إلا بشر مثلكم }.

فجملة { افترى على الله كذباً } صفة لــــ{ رجل } وهي منصَبّ الحصر فهو من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب إضافياً، أي لا كما يزعم أنه مرسل من الله.

وإنما أجروا عليه أنه رجل متابعة لوصفه بالبشرية في قولهم: { ما هذا إلا بشر مثلكم } تقريراً لدليل المماثلة المنافية للرسالة في زعمهم، أي زيادة على كونه رجلاً مثلهم فهو رجل كاذب.

والافتراء: الاختلاق. وهو الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبِر. وتقدم عند قوله تعالى: { { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة المائدة (103).

وإنما صرحوا بأنهم لا يؤمنون به مع دلالة نسبته إلى الكذب على أنهم لا يؤمنون به إعلاناً بالتبري من أن ينخدعوا لما دعاهم إليه، وهو مقتضى حال خطاب العامة.

والقول في إفادة الجملة الاسميَّة التقوية كالقول في { وما نحن بمبعوثين }.