التفاسير

< >
عرض

قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ
٧٨
-القصص

التحرير والتنوير

جواب عن موعظة واعظيه من قومه. وقد جاء على أسلوب حكاية المحاورات فلم يعطف وهو جواب متصلف حاول به إفحامهم وأن يقطعوا موعظتهم لأنها أمرَّت بطره وازدهاءه.

و { إنما } هذه هي أداة الحصر المركبة من (إنّ) و (ما) الكافة مصيّرتين كلمة واحدة وهي التي حقها أن تكتب موصولة النون بميم (ما). والمعنى: ما أوتيت هذا المال إلا على علم علمته.

وضمير { أوتيته } عائد إلى (ما) الموصولة في قولهم { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } [القصص: 77]. وبني الفعل للنائب للعلم بالفاعل من كلام واعظيه.

و { على علم } في موضع الحال من الضمير المرفوع.

و { على } للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق، أي ما أوتيت المال الذي ذكرتموه في حال من الأحوال إلا في حال تمكني من علم راسخ، فيجوز أن يكون المراد من العلم علم أحكام إنتاج المال من التوراة، أي أنا أعلم منكم بما تعظونني به، يعني بذلك قولهم له { لا تفرح - وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة - وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض } [القصص: 76، 77]. وقد كان قارون مشهوراً بالعلم بالتوراة ولكنه أضلّه الله على علم فأراد بهذا الجواب قطع موعظتهم نظير جواب عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لأبي شريح الكعبي حين قدم إلى المدينة أميراً من قبل يزيد بن معاوية سنة ستين فجعل يجهز الجيوش ويبعث البعوث إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير الذي خرج على يزيد، فقال أبو شريح له: ائذن لي أيها الأمير أحدِّثك قولاً قام به رسول الله الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذِن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلِّغ الشاهد الغائب" فقال عمرو بن سعيد: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فارّاً بخربة.

ويجوز أن يكون المراد بالعلم علم اكتساب المال من التجارة ونحوها، فأراد بجوابه إنكار قولهم: آتاك الله صلفاً منه وطغياناً.

وقوله { عندي } صفة لــــ { علم } تأكيداً لتمكنه من العلم وشهرته به. هذا هو الوجه في تفسير هذه الجملة من الآية وهو الذي يستقيم مع قوله تعالى عقبه { أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون } الآية، كما ستعرفه. وذكر المفسرون وجوهاً تسفر عن أشكال أخرى من تركيب نظم الآية في محمل معنى { على } ومحمل المراد من (العلم) ومحمل { عندي } فلا نطيل بذكرها فهي منك على طرف الثمام.

وقوله { أو لم يعلم } الآية إقبال على خطاب المسلمين.

والهمزة في { أو لم يعلم } للاستفهام الإنكاري التعجيبي تعجيباً من عدم جريه على موجب علمه بأن الله أهلك أمماً على بطرهم النعمة وإعجابهم لقوتهم ونسيانه حتى صار كأنه لم يعلمه تعجيباً من فوات مراعاة ذلك منه مع سعة علمه بغيره من باب «حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء».

وعطف هذا الاستفهام على جملة { قال إنما أوتيته }. وهذه جملة معترضة بين أجزاء القصة.

والقوة: ما به يستعان على الأعمال الصعبة تشبيهاً لها بقوة الجسم التي تخول صاحبها حمل الأثقال ونحوها قال تعالى { وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة } [الأنفال: 60].

والجمع: الجماعة من الناس. قيل: كان أشياع قارون مائتين وخمسين من بني إسرائيل رؤساء جماعات.

وجملة { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } تذييل للكلام فهو استئناف وليس عطفاً على أن الله قد أهلك من قبله. والسؤال المنفي السؤال في الدنيا وليس سؤال الآخرة. والمعنى: يحتمل أن يكون السؤال كناية عن عدم الحاجة إلى السؤال عن ذنوبهم فهو كناية عن علم الله تعالى بذنوبهم، وهو كناية عن عقابهم على إجرامهم فهي كناية بوسائط. والكلام تهديد للمجرمين ليكونوا بالحذر من أن يؤخذوا بغتة، ويحتمل أن يكون السؤال بمعناه الحقيقي، أي لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه لأن الله قد بين للناس على ألسنة الرسل بحدي الخير والشر، وأمهل المجرم فإذا أخذه أخذه بغتة وهذا كقوله تعالى { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } [الأنعام: 44] وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله يُمْهِل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"