التفاسير

< >
عرض

قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
١٢
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
١٣
-آل عمران

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي، للانتقال من النذارة إلى التهديد، ومن ضَرب المثل لهم بأحوال سلفهم في الكفر، إلى ضرب المثل لهم بسابق أحوالهم المؤذنة بأنّ أمرهم صائر إلى زوال، وأنّ أمر الإسلام ستندكّ له صمّ الجبال. وجيء في هذا التهديد بأطنب عبارة وأبلغها؛ لأنّ المقام مقام إطناب لمزيد الموعظة، والتذكير بوصف يوم كانَ عليهم، يعلمونه. { والذين كفروا } [البقرة: 39] يحتمل أنّ المراد بهم المذكورون في قوله: { إنّ الذين كفروا لن تغني عنهم } [آل عمران: 116] فيجيء فيه ما تقدّم والعدول عن ضمير (هم) إلى الاسم الظاهر لاستقلال هذه النذارة.

والظاهر أنّ المراد بهم المشركون خاصّة، ولذلك أعيد الاسم الظاهر، ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعدَه: { قد كان لكم آية } إلى قوله { يرونهم مثليهم رأى العين } وذلك ممّا شاهده المشركون يوم بدر.

وقد قيل: أريد بالذين كفروا خصوص اليهود، وذكروا لذلك سبباً رواه الواحدي، في أسباب النزول: أنّ يهود يَثرب كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدّة فلمّا أصاب المسلمين يوم أحد ما أصابهم من النكبة. نقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشْرَف في ستين راكباً إلى أبي سفيان بمكة وقالوا لهم: لتكونَنّ كلمتنا واحدة، فلمّا رجعوا إلى المدينة أنزلت هذه الآية.

وروى محمد بن إسحاق: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غَلَب قريشاً ببدر، ورجع إلى المدينة، جمع اليهودَ وقال لهم: "يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش وأسلموا فقد عرفتم، أنّي نبيء مرسل" فقالوا: «يا محمد لا يغرنّك أنّك لقيتَ قوماً أغمارَا لا معرفة لهم بالحرب فأصبْتَ فيهم فرصة أمَا والله لو قاتلناك لعرفتَ أنّا نحن الناس» فأنزل الله هذه الآية. وعلى هاتين الروايتين فالغلب الذي أنذروا به هو فتح قريظة والنضِير وخَيبر، وأيضاً فالتهديد والوعيد شامل للفريقين في جميع الأحوال.

وعطف { بئس المهاد } على { ستغلبون } عطف الإنشاء على الخبر.

وقرأ الجمهور { ستُغلبون وتُحشرون } -ـ كلتيهما بتاء الخطاب - وقرأه حمزة، والكسائي، وخلَف: بياء الغيبة، وهما وجهان فيما يحكَى بالقول لمخاطب، والخطابُ أكثر: كقوله تعالى: { ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبُدوا الله ربّي وربّكم } [المائدة: 117] ولم يقل ربَّك وربَّهم.

والخطاب في قوله: { قد كان لكم آية } خطاب للذين كفروا، كما هو الظاهر؛ لأنّ المقام للمحاجّة، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة. فيكون من جملة المقول، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين، أو اليهود، أو كليهما، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر.

والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر.

والالتقاء: اللقاء، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، واللقاء مصادفة الشخصِ شخصاً في مَكان واحد، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زَحفاً فلا تولّوهم الأدبار } [الأنفال: 15] وسيأتي. والالتقاء يطلق كذلك كقول أنَيْف بن زَبَّان:

فلَمَّا التقينا بيَّن السيف بينَنَالسائلةٍ عنّا حَفيَ سُؤَالُها
وهذه الآية تحتمل المعنيين.

وقوله: { فئة تقاتل } تفصيل للفئتين، وهو مرفوع على أنّه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيمِ، الوارد بعد الإجمال والجمع.

والفئة: الجماعة من الناس؛ وقد تقدّم الكلام عليها في قوله تعالى: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللَّه } في سورة البقرة.

والخطاب في: { يرونهم } كالخطاب في قوله: { قد كان لكم }.

والرؤية هنا بصرية لقوله: { رأى العين }. والظاهر أنّ الكفار رأوا المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا. فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحقّقوا بعد الهزيمة أنّهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشدّ حسرة لهم، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال (44) بقوله: { ويقلِّلُكم في أعينهم } فإنّ تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم، حتى يستخفّ المشركون بالمسلمين، فلا يأخذوا أهبتهم للقائهم، فلمّا لاَقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعْب والهزيمة، وتحققوا قلّة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلّة وإرادة الكثرة سببي نصر للمسلمين بعجيب صنع الله تعالى. وجوّز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مِثلي عدد المؤمنين، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم، فقلّلهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا؛ لأنهم قد علموا من قبل ان المسلم بغلب كافرين فلو علموا أنّهم ثلاثةُ أضعافهم لخافوا الهزيمة، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال (44): { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } ويكون ضمير الغيبة في قوله: { مِثليهم } راجعاً للمسلمين على طريقة الالتفات، وأصله ترونهم مثليكُم على أنّه من المقول.

وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب: ترونهم بتاء الخطاب وقرأه الباقون بياء الغيبة: على أنّه حال من { أخرى كافرة }، أو من { فئة تقاتل في سبيل الله } أي مثلي عدد المرئين. إن كان الراءون هم المشركين، أو مثلي عدد الرائين، إن كان الراءون هم المسلمين؛ لأنّ كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر. وكلّ فئة علمت رؤيتها وتُحُدّيت بهاته الآية. وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التعبير بفئتكم وفئتهم إلى قوله: { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة }، لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع، بطريقة التوجيه.

و «رأيَ العين» مصدر مبيّن لنوع الرؤية: إذ كان «فعل رأى» يحتمل البصر والقلب، وإضافته إلى العَين دليل على أنّه يستعمل مصدراً لرأى القلبية، كيف والرأي اسم للعقل، وتشاركها فيها رأى البصرية، بخلاف الرؤية فخاصّة بالبصرية.

وجملة { والله يؤيد بنصره من يشاء } تذييل؛ لأنّ تلك الرؤية كيفما فسّرت تأييد للمسلمين، قال تعالى: { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقلّلكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } [الأنفال: 44].