التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ
١٤٢
-آل عمران

التحرير والتنوير

{ أم } هنا منقطعة، هي بمعنى (بل) الانتقالية، لأنّ هذا الكلام انتقال من غرض إلى آخر، وهي إذا استعملت منقطعة تؤذن بأنّ ما بعدها استفهام، لملازمتها للاستفهام، حتَّى قال الزمخشري والمحقّقون: إنَّها لا تفارق الدلالة على الاستفهام بعدها، وقال غيره: ذلك هو الغالب وقد تفارقه، واستشهدوا على مفارقتها للاستفهام بشواهد تقبل التَّأويل.

فقوله: { أم حسبتم } عطف على جملة { ولا تهنوا } [آل عمران: 139] وذلك أنَّهم لمّا مسّهم القرح فحزنوا واعتراهم الوهن حيث لم يشاهدوا مثل النَّصر الَّذي شاهدوه يوم بدر، بيّن الله أنّ لا وجه للوهن للعلل الَّتي تقدّمت، ثُمّ بيّن لهم هنا: أن دخول الجنَّة الَّذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدّين فإذا حسبوا دخول الجنَّة يحصل دون ذلك، فقد أخطأوا.

والاستفهام المقدّر بعد (أم) مستعمل في التَّغليط والنَّهي، ولذلك جاء بـ(أم) للدلالة على التغليط: أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنَّة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد.

ومن المفسّرين من قدّر لِـ(أمْ) هنا معادِلاً محذوفاً، وجعلها متَّصلة، فنقل الفخر عن أبي مسلم الأصفهاني أنَّه قال: عادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً لأنَّه لمّا قال: { ولا تهنوا ولا تحزنوا } [آل عمران: 139] كأنَّه قال: أفتعلمون أنّ ذلك كما تؤمرون أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة.

وجملة { ولما يعلم الله } إلخ في موضع الحال، وهي مصبّ الإنكار، أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنَّة حين لا يعلم الله الَّذين جاهدوا.

و (لَمَّا) حرف نفي أختُ (لم) إلاّ أنَّها أشدّ نفياً من (لم)، لأنّ (لم) لِنفي قول القائل فَعَل فلان، و (لمّا) لنفي قوله قد فعل فلان. قاله سيبويه، كما قال: إنّ (لا) لنفي يفعل و(لن) لنفي سيفعل و(ما) لنفي لقد فعل و(لا) لنفي هو يفعل. فتدلّ (لَمَّا) على اتِّصال النَّفي بها إلى زمن التكلّم، بخلاف (لم)، ومن هذه الدلالة استفيدت دلالة أخرى وهي أنّها تؤذن بأنّ المنفي بها مترقّب الثبوت فيما يستقبل، لأنَّها قائمة مقام قولك استمرّ النَّفي إلى الآن، وإلى هذا ذهب الزمخشري هنا فقال: و (لمّا) بمعنى (لم) إلاّ أنّ فيها ضرباً من التوقُّع وقال في قوله تعالى: { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } سورة [الحجرَات:14]: فيه دلالة على أنّ الأَعراب آمنوا فيما بعد.

والقول في علم الله تقدّم آنفاً في الآية قبل هذه.

وأريد بحالة نفي علم الله بالَّذين جاهدوا والصَّابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد والصّبر عنهم، لأنّ الله إذا علم شيئاً فذلك المعلوم محقّق الوقوع فكما كنّى بعلم الله عن التّحقق في قوله: { وليعلم الله الذين آمنوا } [آل عمران: 140] كنّى بنفي العلم عن نفي الوقوع. وشرط الكناية هنا متوفّر وهو جواز إرادة المعنى الملزوم مع المعنى اللازم لِجواز إرادة انتفاء علم الله بجهادهم مع إرادة انتفاء جهادهم. ولا يرد ما أورده التفتزاني، وأجاب عنه بأنّ الكناية في النفي بنيت على الكناية في الإثبات، وهو تكلّف، إذ شأن التراكيب استقلالها في مفادها ولوازمها.

وعقّب هذا النفي بقوله: { ويعلم الصابرين } معطوفاً بواو المعية فهو في معنى المفعول معه، لتنتظم القيود بعضها مع بعض، فيصير المعنى: أتحسبون أن تدخلوا الجنَّة في حال انتفاء علم الله بجهادكم مع انتفاء علمه بصبركم، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يجتمع العلمان. والجهاد يستدعي الصّبر، لأنّ الصّبر هو سبب النَّجاح في الجهاد، وجالب الانتصار، وقد سئل عليّ عن الشَّجاعة، فقال: صبر ساعة. وقال زفر بن الحارث الكلابي، يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم

سَقَيْنَاهُمُ كأْساً سَقَوْنا بمثلهاولكنَّهم كانُوا على الموْتِ أصبرا

وقد تسبّب في هزيمة المسلمين يومَ أُحُد ضعفُ صبر الرماة، وخفّتهم إلى الغنيمة، وفي الجهاد يُتطلّب صبر المغلوب على الغلب حتَّى لا يهن ولا يستسلم.