التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٢١
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٢
-آل عمران

التحرير والتنوير

استئناف لبيان بعض أحوال اليهود، المنافية إسلامَ الوجه لله، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود، وهم قد عُرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن. والمناسبة: جريان الجدال مع النصارى وأن جُعلوا جميعاً في قَرَن قولِه: { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } [آل عمران: 20].

وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة الفظية، وليس المراد إفادة التجدّد؛ لأنّ ذلك وإن تأتَّى في قوله: { يكفرون } لا يتأتَّى في قوله: { ويقتلون } لأنَّهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمنٍ مضى. والمراد من أصحاب هذه الصلات يهود العَصر النبوي: لأنّهم الذين توعّدهم بعذاب أليم، وإنّما حَمَل هؤلاء تبِعة أسلافهم لأنّهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم، الذين قتلوا زكرياء لأنّه حاول تخليصَ ابنه يَحيَى من القتل، وقتلوا يحيَى لإيمانه بعيسى، وقتلوا النبي إرْمِيَاء بمصر، وقتلوا حزقيال النبي لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم، وزعموا أنّهم قتلوا عيسى عليه السلام، فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه، وقَتَل مَنشا ابنُ حزقيال، ملكُ إسرائيل، النبي أشعياء: نشره بالمِنشار لأنّه نهاه عن المنكر، بمرأى ومسمع من بني إسرائيل، ولم يحموه، فكان هذا القتل معدوداً عليهم، وكم قتلوا ممّن يأمرون بالقسط، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم؛ لأنّهم رضُوا بها، وألَحّوا في وقوعها.

وقوله: { بغير حق } ظرف مستقر في موضع الحال المؤكّدة لمضمون جملةِ { يقتلون النبيّئين } إذ لا يكون قتل النبيّئين إلاّ بغير حق، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحترازِ؛ فإنّه لا يقتل نبي بحق، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه، وإنّما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حَيّز النفي، إذا لم يكن المقصود تسلّط النفي عليه مثل قوله تعالى: { لا يسألون الناس إلحافاً } [البقرة: 273] وقولِه: { ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } وقد تقدم في سورة البقرة (41).

والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم.

ولما كان قوله: ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } مومئاً إلى وجه بناء الخبر: وهو أنَّهم إنّما قتلوهم لأنّهم يأمرون بالقسط أي بالحق، فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة، فلم تحتج إلى زيادة التشنيع.

وقرأ الجمهور من العشرة { يقتلون } الثاني مثل الأول - بسكون القاف - وقرأه حمزة وحده «ويُقاتلون» - بفتح القاف بعدها - بصيغة المفاعلة وهي مبالغة في القتل.

والفاء في { فبشّرهم } فاء الجواب المستعملةُ في الشرط، دخلت على خبر إنّ لأنّ اسم إنّ وهو موصول تضمن معنى الشرط، إشارة إلى أنّه ليس المقصود، قوماً معيّنين، بل كل من يتَّصف بالصلة فجزاؤه أنّ يَعلم أنّ له عذاباً أليماً. واستعمل بشّرهم في معنى أنذرهم تهكّماً.

وحقيقة التبشير: الإخبار بما يُظهر سرور المخبَر (بفتح الباء) وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب، وهو موجب لحزن المخبَرين، فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة، ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلاّ على معنى التهكّم، أو التمليح، كما أطلق عمرو ابن كلثوم. اسم الأضياف على الأعداء، وأطلق القرى على قتل الأعداء، في قوله:

نزلتم مَنزل الأضيافِ منّافعَجَّلْنَا القِرى أن تشتمونا
قَزَيْنَاكُم فعَجَّلْنا قِراكمقُبَيْل الصُّبْح مِرْداةً طَحُونا

قال السكاكي: وذلك بواسطة انتزاع شَبه التضادّ وإلحافه بشَبه التناسب.

وجيء باسم الإشارة في قوله: { أولئك الذين حبطت أعمالهم } لأنّهم تميّزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صِلاتُ الموصول أكملَ تمييز، وللتنبيه على أنّهم أحِقَّاءِ بما سيخبر به عنهم بعدَ اسم الإشارة.

واسم الإشارة مبتدأ، وخبره { الذين حَبِطتْ أعمالهم }، وقيل هو خبر (إنّ) وجملة { فبشرهم بعذاب أليم } وهو الجاري على مذهب سيبويه لأنّه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقاً.

وحَبَط الأعمالِ إزالةِ آثارها النافعة من ثوابٍ ونعيم في الآخرة، وحياةٍ طيّبة في الدنيا، وإطلاق الحَبَط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحَبَط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل، يكون سبب موتها، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به.

وتقدم عند قوله تعالى: { ومن يرتدد منكم عن دينه فيَمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } في سورة البقرة (217).

والمعنى هنا أنّ اليهود لما كانوا متديّنين يَرجون من أعمالهم الصالحة النفعَ بها في الآخرة بالنجَاة من العقاب، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين، فلمّا كفروا بآيات الله، وجحدوا نبوءة محمد، وصوّبوا الذين قَتَلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط، فقد ارتدُّوا عن دينهم فاستحقّوا العذاب الأليم، ولذلك ابتُدىء به بقوله: فبشرهم بعذاب أليم }. فلا جرم تَحْبَطُ أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا، ومعنى { وما لهم من ناصرين } ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به.

وجيء بمن الدالة على تنصيص العموم لئلاّ يترك لهم مدخل إلى التأويل.