التفاسير

< >
عرض

وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
٤١
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ
٤٢
وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ
٤٣
إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ
٤٤
-يس

التحرير والتنوير

انتقال من عدّ آيات في الأرض وفي السماء إلى عد آية في البحر تجمع بين العبرة والمنة وهي آية تسخير الفُلْك أن تسير على الماء وتسخير الماء لتطفو عليه دون أن يغرقها.

وقد ذكَّر الله الناس بآية عظيمة اشتهرت حتى كانت كالمشاهدة عندهم وهي آية إلهام نوح صنع السفينة ليحمل الناس الذين آمنوا ويحمل من كل أنواع الحيوان زوجين لينجي الأنواع من الهلاك والاضمحلال بالغرق في حادث الطوفان. ولما كانت هذه الآية حاصلة لفائدة حمل أزواج من أنواع الحيوان جُعلت الآية نفس الحمل إدماجاً للمنة في ضمن العبرة فكأنه قيل: وآية لهم صنع الفُلك لنحمل ذرياتهم فيه فحملناهم.

وأطلق الحَمل على الإِنجاء من الغرق على وجه المجاز المرسل لعلاقة السببية والمسببية، أي أنجينا ذرياتهم من الغرق بحملهم في الفُلك حين الطوفان.

والذريات: جمع ذرية وهي نسل الإِنسان. و{ الفلك المشحون }: هو المعهود بين البشر في قصة الطوفان، وهو هنا مفرد بقرينة وصفه بالمفرد وهو { المَشْحُونِ } ولم يقل: المشحونة كما قال: { { وترى الفلك فيه مواخر } [فاطر: 12] وهو فلك نوح فقد اشتهر بهذا الوصف في القرآن كما في سورة الشعراء (119) { { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون } ولم يوصف غير فلك نوح بهذا الوصف.

وتعدية { حَمَلْنَا } إلى الذريات تعدية على المفعولية المجازية وهو مجاز عقلي فإن المجاز العقلي لا يختص بالإِسناد بل يكون المجاز في التعليق فإن المحمول أصول الذريات لا الذريات وأصولها ملابسة لها.

ولما كانت ذريات المخاطبين مما أراد الله بقاءه في الأرض حين أمر نوحاً بصنع الفلك لإِنجاء الأنواع وأمره بحمل أزواج من الناس هم الذين تولد منهم البشر بعد الطوفان نُزّل البشر كله منزلة محمولين في الفلك المشحون في زمن نوح، وذكر الذريات يقتضي أن أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازاً في الكلام، وأن أنفسهم محمولون كذلك كأنه قيل: إنا حملنا أُصولهم وحملناهم وحملنا ذرياتهم، إذ لولا نجاة الأصول ما جاءت الذريّات، وكانت الحكمة في حمل الأصول بقاء الذريات فكانت النعمة شاملة للكل، وهذا كالامتنان في قوله: { { إنّا لمّا طغى الماءُ حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة } [الحاقة: 11، 12].

وضمير { ذُرَّيَاتَهُم } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { لَهُمْ } أي العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة لكنهمْ لوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر، فالمعنى: آية لهم أنا حملنا ذريات البشر في سفينة نوح وذلك حين أمر الله نوحاً بأن يحمل فيها أهله والذين آمنوا من قومه لبقاء ذريات البشر فكان ذلك حملاً لذرياتهم ما تسلسلت كما تقدم آنفاً.

هذا هو تأويل هذه الآية قال القرطبي: وهي من أشكل ما في السورة، وقال ابن عطية: «قد خلط بعض الناس حتى قالوا: الذرية تطلق على الآباء وهذا لا يعرف من اللغة» وتقدم قوله: { { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } في سورة الأعراف(172).

وقرأ نافع وابن عامر { ذرياتهم } بلفظ الجمع. وقرأه الباقون بدون ألف بصيغة اسم الجمع، والمعنى واحد. وقد فهم من دلالة قوله: { أنَّا حَمَلْنَا ذُرِيَّاتَهُمْ } صريحاً وكناية أن هذه الآية مستمرة لكل ناظر إذ يشهدون أسفارهم وأسفار أمثالهم في البحر وخاصة سكان الشطوط والسواحل مثل أهل جُدة وأهل يُنْبُع إذ يسافرون إلى بلاد اليمن وبلاد الحبشة فيفهم منه: أنا حملنا ونحمل وسنحمل أسلافهم وأنفسهم وذرياتهم. وقد وصف طرفة السفن في معلّقته.

وجملة { وخَلَقْنَا لهُمْ مِن مِثْلِهِ ما يركَبُونَ } معترضة في خلال آية البحر اقتضتها مراعاة النظير تذكيراً بنعمة خلق الإِبل صالحة للأسفار فحُكيت آية الإِلهام بصنع الفلك من حيث الحكمة العظيمة في الإِلهام وتسخير البحر لها وإيجادها في وقت الحاجة لحفظ النوع، فلذلك لم يؤت في جانبها بفعل الخلق المختص بالإِيجاد دون صنع الناس. وحكيت آية اتخاذ الرواحل بفعل { خلقنا }، ونظير هذه المقارنة قوله تعالى: { { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } [الزخرف: 12]، فَمَا صدْق { مَا يَركَبُونَ } هنا هو الرواحل خاصة لأنها التي تشبه الفلك في جعلها قادرة على قطع الرمال كما جعل الفلك صالحاً لمخْر البحار، وقد سمت العرب الرواحل سفائن البرّ و{ مِن } التي في قوله: { مِن مِثلِهِ } بيانية بتقديم البيان على المبين وهو جائز على الأصح، أو مؤكدة ومجرورها أصله حال من { ما } الموصولة في قوله: { ما يركَبُون }. والمراد المماثلة في العظمة وقوة الحمل ومداومة السير وفي الشكل.

وجملة { وإن نَشَأْ نُغْرِقهُم } عطف على جملة { أنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّاتَهُم } باعتبار دلالتها الكنائية على استمرار هذه الآية وهذه المنة تذكيراً بأن الله تعالى الذي امتنّ عليهم إذا شاء جعل فيما هو نعمة على الناس نقمة لهم لحكمة يعلمها. وهذا جرى على عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسِه لئلا يبطر الناس بالنعمة ولا ييأسوا من الرحمة. وقرينة ذلك أنه جيء في هذه الجملة بالمضارع المتمحّض في سياق الشرط لكونه مستقبلاً، وهذا كقوله تعالى: { { أفأمِنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكم وكيلاً أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً } [الإسراء: 68ــــ69].

والصريخ: الصارخ وهو المستغيث المستنجد تقول العرب: جاءهم الصريخ، أي المنكوب المستنجد لينقذوه، وهو فعيل بمعنى فاعل. ويطلق الصريخ على المغيث فعيل بمعنى مفعول، وذلك أن المنجد إذا صرخ به المستنجد صرخ هو مجيباً بما يطمئن له من النصر. وقد جمع المعنيين قول سلامة بن جندل أنشده المبرد في «الكامل»:

إنا إذا أتانا صارخ فزعكان الصُراخ له قَرع الظَنابيب

والظنابيب: جمع ظُنبوب وهو مسمار يكون في جُبة السنان. وقرع الظنابيب تفقد الأسنة استعداداً للخروج.

والمعنى: لا يجدون من يستصرخون به وهم في لُجج البحر ولا ينقذهم أحد من الغرق.

والإنقاذ: الانتشال من الماء.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: { ولا هم يُنقَذُونَ } لإِفادة تقوّي الحكم وهو نفي إنقاذ أحدٍ إياهم.

والاستثناء في قوله: { إلاَّ رَحْمَةً } منقطع فإن الرحمة ليست من الصريخ ولا من المنقذ وإنما هي إسعاف الله تعالى إياهم بسكون البحر وتمكينهم من السبح على أعواد الفلك.

و { وَمَتاعاً } عَطف على { رَحْمَةً }، أي إلاّ رحمة هي تمتيع إلى أجل معلوم فإن كل حي صائر إلى الموت فإذا نجا من موته استقبلته موتة أخرى ولكن الله أودع في فطرة الإِنسان حبّ زيادة الحياة مع علمه بأنه لا محيد له عن الموت.