التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً
١١٥
-النساء

التحرير والتنوير

عطف على { { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله } [النساء: 114] بمناسبة تضادّ الحالين. والمشاقّة: المخالفة المقصودة، مشتقّة من الشِّقّ لأنّ المخالف كأنّه يختار شِقّا يكون فيه غير شِقّ الآخر.

فيحتمل قوله: { من بعد ما تبين له الهدى } أن يكون أراد به من بعد ما آمن بالرسول فتكون الآية وعيداً للمرتدّ. ومناسبتها هنا أن بشير بن أبَيْرق صاحب القصّة المتقدّمة، لمّا افتضح أمره ارتدّ ولحق بمكة، ويحتمل أن يكون مراداً به من بعد ما ظهر صدق الرسول بالمعجزات، ولكنّه شاقَّه عناداً ونِواء للإسلام.

وسَبيل كلّ قوم طريقتهم التي يسلكونها في وصفهم الخاصّ، فالسبيل مستعار للاعتقادات والأفعال والعادات، التي يلازمها أحد ولا يبتغي التحوّل عنها، كما يلازم قاصد المكان طريقاً يبلغه إلى قصده، قال تعالى: { قل هذه سبيلي } [يوسف: 108] ومعنى هذه الآية نظير معنى قوله: { إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقّوا الرسول من بعد ما تبيّن لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم } [محمد: 32]، فمن اتّبع سبيل المؤمنين في الإيمان واتّبع سبيل غيرهم في غير الكفر مثل اتّباع سبيل يهود خبير في غراسة النخيل، أو بناء الحصون، لا يحسن أن يقال فيه اتّبع غير سبيل المؤمنين. وكأنّ فائدة عطف اتّباع غير سبيل المؤمنين على مشاقّة الرسول الحَيطةُ لحفظ الجامعة الإسلامية بعد الرسول، فقد ارتدّ بعض العرب بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال الحُطيئة في ذلك:

أطعنا رسولَ اللَّه إذ كان بيننافيا لعباد الله ما لأبي بكر

فكانوا ممّن اتّبع غير سبيل المؤمنين ولم يُشَاقّوا الرسول.

ومعنى قوله: { نوله ما تولى } الإعراض عنه، أي نتركه وشأنه لقلّة الاكتراث به، كما ورد في الحديث "وأمّا الآخر فأعرض الله عنه" .

وقد شاع عند كثير من علماء أصول الفقه الاحتجاج بهذه الآية، لكون إجماع علماء الإسلام على حكم من الأحكام حجّة، وأوّل من احتجّ بها على ذلك الشافعي. قال الفخر: «روي أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله تدلّ على أنّ الإجماع حجّة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتّى وجد هذه الآية. وتقرير الاستدلال أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام، فوجب أن يكون اتّباع سبيل المؤمنين واجباً. بيان المقدمة الأولى: أنّه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتّبع غير سبيل المؤمنين، ومشاقّة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد، فلو لم يكن اتّباع غير سبيل المؤمنين موجباً له، لكان ذلك ضمّا لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقلّ باقتضاء ذلك الوعيد، وأنّه غير جائز، فثبت أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام، فإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتّباع سبيلهم واجباً». وقد قرّر غيره الاستدلال بالآية على حجّيّة الإجماع بطرق أخرى، وكلّها على ما فيها من ضعف في التقريب، وهو استلزام الدليل للمدّعي، قد أوردت عليها نقوض أشار إليها ابن الحاجب في «المختصر». واتّفقت كلمة المحقّقين: الغزالي، والإمام في «المعالم»، وابنِ الحاجب، على توهين الاستدلال بهذه الآية على حجّيّة الإجماع.