التفاسير

< >
عرض

فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً
١٦٠
وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٦١
لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
١٦٢
-النساء

التحرير والتنوير

إن كان متعلَّق قوله: { { فبما نقضهم } [النساء: 155] محذوفاً على أحد الوجهين المتقدّمين كان قوله: { فبظلم } مفرّعاً على مجموع جرائمهم السالفة. فيكون المراد بظلمهم ظلماً آخر غير ما عُدّد من قبل، وإن كان قوله: { فبما نقضهم } [النساء: 155] متعلّقاً بقوله: { حرّمنا عليهم } فقوله: { فبظلم } الخ بَدَل مطابق من جملة { فبما نقضهم ميثاقهم } [النساء: 155] بإعادة العامل في البدل منه لطول الفصل. وفائدة الإتيان به أن يظهر تعلّقه بقوله: { حرّمنا عليهم طيّبات } إذ بَعُد ما بينه وبين متعلّقه، وهو قوله: { فبما نقضهم ميثاقهم } [النساء: 155] ليقوى ارتباط الكلام. وأتي في جملة البدل بلفظ جامع للمبدل منه وما عطف عليه: لأنّ نقض الميثاق، والكفر، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وقولهم على مريم بهتاناً، وقولهم قتلنا عيسى: كلّ ذلك ظلم. فكانت الجملة الأخيرة بمنزلة الفذلكة لما تقدّم، كأنَّه قيل: فبذلك كلّه حرّمنا عليهم، لكن عدل إلى لفظ الظلم لأنّه أحسن تفنّناً، وأكثر فائدة من الإتيان باسم الإشارة. وقد مرّ بيان ذلك قريباً عند قوله تعالى: { فبما نقضهم } [النساء: 155]. ويجوز أن يكون ظلماً آخر أجْملَهُ القرآن.

وتنكير (ظلم) للتعظيم، والعدولُ عن أن يقول «فبظلمهم»، حتّى تأتي الضمائر متتابعة من قوله: { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم } إلى آخره، إلى الاسم الظاهر وهو { الَّذين هادوا } لأجل بعد الضمير في الجملة المبدل منها: وهي { { فبما نقضهم } [النساء: 155]. ولأنّ في الموصول وصلته ما يقتضي التنزّه عن الظلم لو كانوا كما وصفوا أنفسهم، فقالوا: { { إنّا هدنا إليك } [الأعراف: 156]؛ فصدور الظلم عن الذين هادوا محلّ استغراب.

والآية اقتضت: أنّ تحريم ما حرّم عليهم إنَّما كان عقاباً لهم، وأنّ تلك المحرّمات ليس فيها من المفاسد ما يتقضي تحريم تناولها، وإلاّ لحُرمّت عليهم من أوّل مجيء الشريعة. وقد قيل: إنّ المراد بهذه الطيّبات هو ما ذكر في قوله تعالى: { وعلى الذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظُفر ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما } سورة الأنعام (146) إلى قوله { { ذلك جزيناهم ببغيهم } في سورة الأنعام (146)، فهذا هو الجزاء على ظلمهم.

نقل الفخر في آية سورة الأنعام عن عبد الجبّار أنَّه قال: نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر منهم لأنّ التكليف تعريض للثواب، والتعريض للثواب إحسان، فلم يُجِز أن يكون التكليف جزاء على الجرم. قال الفخر: والجواب أنّ المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لقصد استحقاق الثواب ويمكن أن يكون للجرم.

وهذا الجواب مصادرة على أنّ ممّا يقوّي الإشكال أنّ العقوبة حقّها أن تُخصّ بالمجرمين ثُمّ تنسخ. فالذي يظهر لي في الجواب: إمَّا أن يكون سبب تحريم تلك الطيّبات أنّ ما سرى في طباعهم بسبب بغيهم وظلمهم من القساوَة صار ذلك طبعاً في أمزجتهم فاقتضى أن يلطِّف الله طباعهم بتحريم مأكولات من طبعها تغليظ الطباع، ولذلك لمّا جاءهم عيسى أحلّ الله لهم بعض ما حرّم عليهم من ذلك لزوال موجب التحريم، وإمّا أن يكون تحريم ما حرّم عليهم عقاباً للذين ظلموا وبغوا ثُمّ بقي ذلك على من جاء بعدهم ليكون لهم ذِكْرى ويكون للأوّلين سُوء ذِكر من باب قوله: { { واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة } [الأنفال: 25]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأولِ كِفْل من دمها" . ذلك لأنّه أوّل من سَنّ القتل. وإمّا لأنّ هذا التحريم عقوبة دنيوية راجعة إلى الحرمان من الطيّبات فلا نظر إلى ما يعرض لهذا التحريم تارة من الثواب على نيّة الامتثال للنهي، لندرة حصول هذه النيّة في التّرك.

وصَدّهم عن سبيل الله: إن كان مصدرَ صَدّ القاصر الذي مضارعه يصِدّ ـــ بكسر الصاد ـــ فالعنى بإعراضهم عن سبيل الله؛ وإن كان مصدر المتعدّي الذي قِياس مضارعه ـــ بضمّ الصاد ـــ، فلعلّهم كانوا يصدّون النّاس عن التقوى، ويقولون: سيغفر لنا، من زمن موسى قبل أن يحرّم عليهم بعض الطيّبات. أمّا بعد موسى فقد صدّوا النّاس كثيراً، وعاندوا الأنبياء، وحاولوهم على كتم المواعظ، وكذّبوا عيسى، وعارضوا دعوة محمّد صلى الله عليه وسلم وسوّلوا لكثير من النّاس، جهراً أو نفاقاً، البقاء على الجاهليّة، كما تقدّم في قوله: { { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } [النساء: 51] الآيات. ولذلك وصف بــ{ كثيراً } حالاً منه.

وأخذُهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصّة ويسوغ لهم أخذه من غير الإسرائليّين كما في الإصحاح23 من سفر التثنية «لا تقرض أخاك بربا ربَا قضّةٍ أو ربا طعام أو ربا شيء مّا ممّا يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا». والربا محرّم عليهم بنصّ التوراة في سفر الخروج في الإصحاح22 «أن أقرضَت فضّة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا» وأكلُهم أموال النّاس بالباطل أعمّ من الربا فيشمل الرشوة المحرّمة عندهم، وأخذهم الفداء على الأسرى من قومهم، وغير ذلك.

والاستدراك بقوله: { لكن الراسخون في العلم } الخ ناشيء على ما يوهمه الكلام السابق ابتداء من قوله: { { يسألك أهل الكتاب } [النساء: 153] من توغّلهم في الضلالة حتّى لا يرجى لأحد منهم خير وصلاح، فاستدرك بأنّ الراسخين في العلم منهم ليسوا كما توهَّم، فهم يؤمنون بالقرآن مثل عبد الله بن سلام ومخيريق.

والراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي، لا يتزلزل؛ واستعير للتمكّن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغرّه الشبه. وقد تقدّم عند قوله تعالى: { { وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العِلم } في سورة آل عمران (7). والرّاسخ في العلم بعيد عن التكلّف وعن التعنّت، فليس بينه وبين الحقّ حاجب، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات.

وعطفُ { المؤمنون } على { الراسخون } ثناء عليهم بأنّهم لم يسألوا نبيّهم أن يريهم الآيات الخوارقَ للعادة. فلذلك قال { يؤمنون }، أي جميعهم بما أنزل إليك، أي القرآن، وكفاهم به آية، وما أنزل من قبلك على الرسل، ولا يعادون رسل الله تعصّباً وحميّة. والمراد بالمؤمنين في قوله: { والمؤمنون } الذين هداهم الله للإيمان من أهل الكتاب، ولم يكونوا من الراسخين في العلم منهم، مثل اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنَ به.

وعطف { المقيمين } بالنصب ثبت في المصحف الإمام، وقرأه المسلمون في الأقطار دون نكير؛ فعلمْنا أنّه طريقة عربية في عطف الأسماء الدالّة على صفات محامدَ، على أمثالها، فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح، والرفعُ على الاستئناف للاهتمام، كما فعلوا ذلك في النعوت المتتابعة، سواء كانت بدون عطف أم بعطف، كقوله تعالى: { ولكنْ البِرّ من آمن } [البقرة: 177] إلى قوله { { والصابرين } [البقرة: 177]. قال سيبويه في «كتابه» «بابُ ما ينتصب في التعظيم والمدح وإن شئت جَعلته صفة فجرَى على الأول، وإن شئتَ قطعته فابتدأتَه». وذَكر من قبيل ما نحن بصدده هذه الآية فقال: «فلو كان كلُّه رفعاً كان جيّداً»، ومثْله { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضّرّاء } [البقرة: 177]، ونظيره قول الخِرْنق:

لا يبْعَدَنْ قومي الذي هُمُوسُمّ العُداة وآفَة الجزر
النازلون بكلّ معتركوالطيِّبيّين معاقِدَ الأزْر

في رواية يونس عن العرب: برفع (النازلون) ونصب (الطيِّبيين)، لتكون نظير هذه الآية. والظاهر أنّ هذا ممّا يجري على قصد التفنّن عند تكرّر المتتابعات، ولذلك تكرّر وقوعه في القرآن في معطوفات متتابعات كما في سورة البقرة وفي هذه الآية، وفي قوله: { { والصابئون } في سورة المائدة (69).

وروي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّ نصب { المقيمين } خطأ، من كاتب المصحف وقد عَدّتْ من الخطأ هذه الآية. وقوله: { { ولكن البرّ من آمن بالله } [البقرة: 177] إلى قوله { { والصابرين في البأساء } [البقرة: 177] وقولهِ: { { إِنّ هذَان لساحرانِ } [طه: 63]. وقوله: { والصابئُون } في سورة المائدة (69). وقرأتْها عائشة، وعبد الله بن مسعود، وأبَي بن كعب، والحسن، ومالك بن دينار، والجحدري، وسعيد بن جبير، وعيسى بن عمر، وعمرو بن عبيد: والمقيمون } ـــ بالرفع ـــ. ولا تردّ قراءة الجمهور المجمع عليها بقراءة شاذّة.

ومن النّاس من زعم أنّ نصب { المقيمين } ونحوه هو مظهر تأويل قول عثمان لكتّاب المصاحف حين أتمّوها وقرأها أنّه قال لهم: «أحسنتم وأجملتم وأرى لحناً قليلاً ستُقيمه العرب بألْسنتها». وهذه أوهام وأخبار لم تصحّ عن الّذين نُسبت إليهم. ومن البعيد جدّاً أن يخطىء كاتب المصحف في كلمة بين أخواتها فيفردها بالخطأ دون سابقتها أو تابعتها، وأبعد منه أن يجيء الخطأ في طائفة متماثلة من الكلمات وهي التي إعرابها بالحروف النائبة عن حركات الإعراب من المثنّى والجمع على حدّهِ. ولا أحسب ما رواه عن عائشة وأبان بن عثمان في ذلك صحيحاً. وقد علمتَ وجه عربيّته في المتعاطفات، وأمّا وجه عربية { { إنّ هذان لساحران } فيأتي عند الكلام في سورة طه (63).

والظاهر أنّ تأويل قول عثمان هو ما وقع في رسم المصحف من نحو الألِفات المحذوفة. قال صاحب الكشاف: «وهُم كانوا أبْعَدَ همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يَلْحَق بهم». وقد تقدّم نظير هذا عند قوله تعالى: { { والصابرين في البأساء والضرّاء } في سورة البقرة (177).

والوعد بالأجر العظيم بالنسبة للراسخين من أهل الكتاب لأنَّهم آمنوا برسولهم وبمحمّد وقد ورد في الحديث الصّحيح: أنّ لهم أجرين، وبالنسبة للمؤمنين من العرب لأنَّهم سبقوا غيرهم بالإيمان.

وقرأ الجمهور: سنوتيهم } ـــ بنون العظمة ـــ وقرأه حمزة وخلف ـــ بياء الغيبة ـــ والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: { والمؤمنون بالله }.