التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
٣٧
وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً
٣٨
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِم عَلِيماً
٣٩
-النساء

التحرير والتنوير

يجوز أن يكون استئنافاً ابتدائياً، جيء به عقب الأمر بالإحسان لمن جرى ذكرهم في الجملة السابقة، ومناسبة إرداف التحريض على الإحسان بالتحذير من ضدهّ وما يشبه ضدّه من كلّ إحسان غير صالح؛ فقوبل الخُلق الذي دعاهم الله إليه بأخلاق أهل الكفر وحِزب الشيطان كما دلّ عليه ما في خلال هذه الجملة من ذِكر الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.

فيكون قوله: { الذين يبخلون } مبتدأ، وحُذف خبره ودَلّ عليه قولُه: { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً }. وقُصد العدول عن العطف: لتكون مستقلّة، ولما فيه من فائدة العموم، وفائدة الإعلام بأنّ هؤلاء من الكافرين. فالتقدير: الذين يبخلون أعتدنا لهم عذاباً مهينا وأعتدنا ذلك للكافرين أمثالهم، وتكون جملة: { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } معطوفة أيضاً على جملة { والذين يبخلون } محذوفة الخبر أيضاً، يدلّ عليه قوله: { ومن يكن الشيطان له قرينا } إلخ. والتقدير: والذين ينفقون أموالهم رثاء الناس قرينهم الشيطان. ونكتة العدول إلى العطف مثل نكتة ما قبلها.

ويجوز أن يكون { الذين يبخلون } بدلاَ من (مَن) في قوله: { { من كان مختالاً فخوراً } [النساء: 36] فيكون قوله: { والذين ينفقون أموالهم } معطوفاً على { الذين يبخلون }، وجملة { وأعتدنا } معترضة. وهؤلاء هم المشركون المتظاهرون بالكفر، وكذلك المنافقون.

والبخل ــــ بضمّ الباء وسكون الخاء ــــ اسم مصدر بخل من باب فرح، ويقال البَخَل ــــ بفتح الباء والخاء ــــ وهو مصدره القياسي، قرأه الجمهور ــــ بضم الباء ــــ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلَف ــــ بفتح الباء والخاء ــــ.

والبخل: ضدّ الجود وقد مضى عند قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } في سورة آل عمران (180). ومعنى { يأمرون الناس بالبخل } يحضّون الناس عليه، وهذا أشدّ البخل، قال أبو تمّام:

وإنّ امرأ ضنّت يداه على امرىءبنيل يَدٍ من غيره لبخيل

والكتمان: الإخفاء. و{ ما آتاهم الله من فضله } يحتمل أنّ المراد به المال، كقوله تعالى: { { ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } [آل عمران: 180]؛ فيكون المعنى: أنّهم يبخلون ويعتذرون بأنّهم لا يجدون ما ينفقون منه، ويحتمل أنّه أريد به كتمان التوراة بما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الاحتمال الأوّل يكون المراد بالذين يبخلون: المنافقين، وعلى الثاني يكون المراد بهم: اليهود؛ وهذا المأثور عن ابن عباس. ويجوز أن تكون في المنافقين، فقد كانوا يأمرون الناس بالبخل { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } [المنافقون: 7]. وقوله: { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً }، عَقِبَه، يؤذن بأنّ المراد أحد هذين الفريقين. وجملة: { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } معترضة.

وأصل و{ أعتدنا } أعددنا، أبدلت الدال الأولى تاء، لثقل الدالين عند فكّ الإدغام باتّصال ضمير الرفع، وهكذا مادّة أعدّ في كلام العرب إذا أدغموها لم يبدلوا الدال بالتاء لأنّ الإدغام أخفّ، وإذا أظهروا أبدلوا الدال تاء، ومن ذلك قولهم: عَتاد لعُدّة السلاح، وأعْتُد جمع عتاد.

ووصف العذاب بالمهين جزاء لهم على الاختيال والفخر.

وعطف { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } على { الذين يبخلون }: لأنّهم أنفقوا إنفاقاً لا تحصل به فائدة الإنفاق غالباً، لأنّ من ينفق ماله رئاء لا يتوخّى به مواقع الحاجة، فقد يعطي الغنيّ ويمنع الفقير، وأريد بهم هنا المنفقون من المنافقين المشركين، ولذلك وصفوا بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وقيل: أريد بهم المشركون من أهل مكة، وهو بعيد، لأنّ أهل مكة قد انقطع الجدال معهم بعد الهجرة.

وجملة: { ومن يكن الشيطان له قرينا } معترضة.

وقوله: { فساء قريناً } جواب الشرط. والضمير المُستتر في (ساء) إن كان عائداً إلى الشيطان فــــ (ساءَ) بمعنى بئس، والضمير فاعلها، و{ قرينا } تمييز للضمير، مثل قوله تعالى: { ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا } [الأعراف: 177]، أي: فساء قرينا له، ليحصل الربط بين الشرط وجوابه، ويجوز أن تبقى (ساء) على أصلها ضَدّ حَسُن، وترفع ضميرا عائداً على (مَن) ويكون(قريناً) تمييز نسبة، كقولهم: «ساءَ سمعاً فَسَاء جَابَةً» أي فساءَ من كان الشيطان قرينَهُ من جهة القَرين، والمقصود على كلا الاحتمالين سوء حال من كان الشيطان له قريناً بإثبات سوء قرينه؛ إذ المرء يعرف بقرينه، كما قال عديّ بن زيد:

فَكُلّ قرينٍ بالمُقَارن يَقْتَدي

وقوله: { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر } عطف على الجملتين، وضمير الجمع عائد إلى الفريقين، والمقصود استنزال طائرهم، وإقامة الحجّة عليهم.

{ وماذا } استفهام، وهو هنا إنكاري توبيخي. و(ذا) إشارة إلى (مَا)، والأصل لا يجيء بعد (ذا) اسم موصول نحو { { من ذا الذي يشفع عنده } [البقرة: 255]. وكثر في كلام العرب حذفه وإبقاء صلته لكثرة الاستعمال، فقال النحاة: نابت { ذا } منابَ الموصول، فعدّوها في الموصولات وما هي منها في قبيل ولا دبير، ولكنّها مؤذنة بها في بعض المواضع. { وعلى } ظرف مستقِرّ هو صلة الموصول، فهو مؤوّل بكون. و{ على } للاستعلاء المجازي بمعنى الكلفة والمشقّة، كقولهم: عَليك أن تفعل كذا. و{ لو آمنوا } شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، وقد قدّم دليل الجواب اهتماماً بالاستفهام، كقول قَتيلة بنت الحارث:

مَا كانَ ضَرَّك لو مَننت وربمامنَّ الفتى وهو المَغيظ المُحْنَقُ

ومن هذا الاستعمال تَوَلَّدَ معنى المصدرية في لو الشرطية، فأثبته بعض النحاة في معاني لو، وليس بمعنى لو في التحقيق، ولكنه ينشأ من الاستعمال. وتقدير الكلام: لو آمنوا ماذا الذي كان يتعبهم ويثقلهم، أي لكان خفيفاً عليهم ونافعاً لهم، وهذا من الجدل بإراءة الحالة المتروكة أنفعَ ومحمودةً.

ثم إذا ظهر أنّ التفريط في أخفّ الحالين وأسدّهما أمر نكر، ظهر أنّ المفرّط في ذلك مَلوم، إذ لم يأخذ لنفسه بأرشد الخَلَّتين، فالكلام مستعمل في التوبيخ استعمالا كنائيا بواسطتين. والملام متوجّه للفريقين: الذين يبخلون؛ والذين ينفقون رئاء، لقوله: { لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله }على عكس ترتيب الكلام السابق.

وجملة: { وكان الله بهم عليماً } معترضة في آخر الكلام، وهي تعريض بالتهديد والجزاء على سوء أعمالهم.