التفاسير

< >
عرض

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً
٤١
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً
٤٢
-النساء

التحرير والتنوير

الفاء يجوز أن تكون فاء فصيحة تدلّ على شرط مقدّر نشأ عن الوعيد في قوله: { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } [النساء: 37] وقوله: { فساء قريناً } [النساء: 38]؛ وعن التوبيخ في قوله: { وماذا عليهم } [النساء: 39] وعن الوعد في قوله: { { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [النساء: 40] الآية، والتقدير: إذا أيقنت بذلك فكيفَ حال كلّ أولئك إذا جاء الشهداء وظهر موجَب الشهادة على العمل الصالِح وعلى العمل السيّىء، وعلى هذا فليس ضميرُ (بكَ) إضماراً في مقام الإظهار، ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على قوله: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } [النساء: 40]، أي يتفرّع عن ذلك سؤال عن حال الناس إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد؛ فالناسُ بين مستبشر ومتحسّر، وعلى هذا فضمير { بك } واقع موقع الاسم الظاهر لأنّ مقتضَى هذا أن يكون الكلام مسوقاً لجميع الأمّة، فيقتضي أن يقال: وجئنا بالرَّسُول عليهم شهيداً، فعُدل إلى الخطاب تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم بعزّ الحُضور والإقبال عليه.

والحالة التي دلّ عليها الاستفهام المستعمل في التعجيب تؤذن بحالة مهولة للمشركين وتنادي على حيرتهم ومحاولتهم التملّص من العقاب بسلوك طريق إنكار أن يكونوا أنذروا ممّا دلّ عليه مجيء شهيد عليهم، ولذلك حذف المبتدأ المستفهم عنه ويقدّر بنحو: كيف أولئك، أو كيف المَشْهَد، ولا يقدّر بكيف حالهم خاصّة، إذ هي أحوال كثيرة ما منها إلاّ يزيده حالُ ضدّه وضوحاً، فالناجي يزداد سروراً بمشاهدة حال ضدّه، والموبق يزداد تحسّرا بمشاهدة حال ضدّه، والكلّ يقوى يقينه بما حصل له بشهادة الصادقين له أو عليه، ولذلك لمّا ذكر الشهيد لم يذكر معه مُتعلِّقه بعلَى أو اللام: ليعمّ الأمرين. والاستفهام مستعمل في لازم معناه من التعجيب، وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالى: { { فكيف إذا جمعناهم } في سورة آل عمران (25).

(وإذا) ظرف للمستقبل مضاف إلى جملة { جئنا } أي زمان إتياننا بشهيد. ومضمون الجملة معلوم من آيات أخرى تقدّم نزولها مثلُ آية سورة النحل (89) { { ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } فلذلك صلحت لأن يتعرّف اسم الزَّمان بإضافته إلى تلك الجملة، والظرف معمول ل(كيف) لما فيها من معنى الفعل وهو معنى التعجيب، كما انتصب بمعنى التلهّف في قول أبي الطمْحان:

وقبْل غدٍ يَا لهفَ قلبي من غَدٍإذا رَاح أصحابي ولستُ برائح

والمجروران في قوله: من كل أمة } وقوله: { بشهيد } يتعلّقان بــــ (جئنا). وقد تقدّم الكلام مختصراً على نظيره في قوله تعالى: { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } [آل عمران: 25].

وشهيد كلّ أمّة هو رسولها، بقرينة قوله: { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }.

و{ هؤلاء } إشارة إلى الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لحضورهم في ذهن السامع عند سماعه اسم الإشارة، وأصل الإشارة يكون إلى مشاهد في الوجود أو منزّل منزلتَه، وقد اصطلح القرآن على إطلاق إشارة (هؤلاء) مراداً بها المشركون، وهذا معنى ألهمنا إليه، استقريْناه فكان مطابقاً. ويجوز أن تكون الإشارة إلى { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } [النساء: 37] وهم المشركون والمنافقون، لأنّ تقدّم ذكرهم يجعلهم كالحاضرين فيشار إليهم، لأنّهم لكثرة توبيخهم ومجادلتهم صاروا كالمعيّنين عند المسلمين. ومن أضعف الاحتمالات أن يكون { هؤلاء } إشارة إلى الشهداء، الدالّ عليهم قوله: { كل أمةٍ بشهيد } وأن ورد في «الصحيح» حديث يناسبه في شهادة نوح على قومه وأنّهم يكذّبونه فَيشهد محمّد صلى الله عليه وسلم بصِدقه، إذ ليس يلزم أن يكون ذلك المقصودَ من هذه الآية.

وذُكر متعلّق (شهيدا) الثاني مجروراً بعلى لتهديد الكافرين بأنّ الشهادة تكون عليهم، لأنّهم المقصود من اسم الإشارة.

وفي «صحيح البخاري»: أنّ عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ عليّ القرآن، قلت: أقْرَأهُ عليك وعليكَ أنْزِل، قال: إني أحِبّ أنْ أسْمَعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء، حتّى إذا بلغتُ { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }، قال: { أمسِك } فإذا عينَاه تذرفان. وكما قلت: إنه أوجز في التعبير عن تلك الحال في لفظ كيف فكذلك أقول هنا: لا فِعل أجمع دلالة على مجموع الشعور عند هذه الحالة من بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه دلالة على شعور مجتمعٍ فيه دلائلُ عظيمة: وهي المسرّة بتشريف الله إيّاه في ذلك المشهد العظيم، وتصديقِ المؤمنين إيّاه في التبليغ، ورؤيةِ الخيرات التي أنجزت لهم بواسطته، والأسفِ على ما لحق بقية أمّته من العذاب على تكذيبه، ومشاهدةِ ندمهم على معصيته، والبكاء ترجمانُ رحمةٍ ومسرّة وأسف وبهجة.

وقوله: { يومئذٍ يود الذين كفروا } الآية استئناف بياني، لأنّ السامع يَتساءل عن الحالة المبهمة المدلولة لقوله: { كيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } ويتطلّب بيانها، فجاءت هذه الجملة مبيّنة لبعض تلك الحالة العجيبة، وهو حال الذين كفروا حين يرون بوارق الشرّ: من شهادة شهداء الأمم على مؤمنهم وكافرهم، ويوقنون بأنّ المشهود عليهم بالكفر مأخوذون إلى العذاب، فينالهم من الخوف ما يودّون منه لو تَسَّوى بهم الأرض.

وجملة { لو تسوى بهم الأرض } بيان لجملة يودّ أي يودّون وُدَّا يبيّنه قوله: { لو تسوى بهم الأرض }، ولكون مضمونها أفاد معنى الشيء المودود صارت الجملة الشرطية بمنزلة مفعول (يودّ)، فصار فعلها بمنزلة المصدر، وصارت لو بمنزلة حرف المصدر، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: { { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } في سورة البقرة (96).

وقوله: تسوى } قرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر ــــ بفتح التاء وتشديد السين ــــ فهو مضارع تَسَوَّى الذي هو مطاوع سَوَّاه إذا جعله سَواءً لشيءٍ آخر؛ أي مماثلا، لأنّ السواء المثل فأدْغِمت إحدى التاءين في السين؛ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف ــــ بفتح التاء وتخفيف السين ــــ على معنى القرَاءة السابقة لكن بحذف إحدى التاءين للتخفيف؛ وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب { تسوى } ــــ بضمّ التاء وتخفيف السين ــــ مبنيّا للمجهول، أي تُمَاثَل. والمماثلة المستفادة من التسوية تحتمل أن تكون مماثلة في الذات، فيكون المعنى أنّهم يصيرون تُراباً مثل الأرض لظهور أن لا يقصد أن تصير الأرض ناسا، فيكون المعنى على هذا هو معنى قوله تعالى: { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } [النبأ: 40]. وهذا تفسير الجمهور، وعلى هذا فالكلام إطناب، قصد من إطنابه سلوك طريقة الكناية عن صيرورتهم تراباً بالكناية المطلوب بها نِسبةٌ، كقولهم: المجدُ بين ثوبيْه، وقول زياد الأعجم:

إنَّ السَّماحةَ والمُرُوءَة والنَّدىفي قُبَّة ضُربت على ابن الحشرج

أي أنّه سمح ذو مروءة كريم؛ ويحتمل أن تكون مماثلة في المقدار، فقيل: يودّون أنّهم لم يبعثوا وبَقُوا مستوين مع الأرض في بطنها، وقيل: يودّون أن يُدفنوا حينئذ كما كانوا قبل البعث.

والأظهر عندي: أنّ المعنى التسويةُ في البروز والظهور، أي أن ترتفع الأرض فتُسَوَّى في الارتفاع بأجسادهم، فلا يظهروا، وذلك كناية عن شدّة خوفهم وذلّهم، فينقبضون ويتضاءلون حتّى يودّوا أن يصيروا غير ظَاهرين على الأرض، كما وَصف أحدُ الأعراب يهجو قوماً من طَيّءٍ أنشده المبرّد في الكامل:

إذَا ما قيل أيُّهُمُ لأَيتَشَابَهَتْ المَنَاكِبُ والرُّؤُوسُ

وهذا أحسن في معنى الآية وأنسب بالكناية.

وجملة { ولا يكتمون الله حديثاً } يجوز أن تكون مستأنفة والواو عاطفة لها على جملة { يود }؛ ويجوز أن تكون حالية، أي يودّون لو تسوّى بهم الأرض في حال عدم كتمانهم، فكأنّهم لمّا رأوا استشهاد الرسل، ورأوا جزاء المشهود عليهم من الأمم السالفة، ورأوا عاقبة كذب المرسَل إليهم حتّى احتيج إلى إشهاد رسلهم، علموا أنّ النَّوبة مفضية إليهم، وخامرهم أن يكتموا الله أمْرَهم إذا سألَهم الله، ولم تساعدهم نفوسهم على الاعتراف بالصدق، لِمَا رأوا من عواقب ثبوت الكفر، من شدّة هلعهم، فوقعوا بين المقتضي والمانع، فتمنّوا أن يَخفَوْا ولا يظهروا حتّى لا يُسألوا فلا يضطرّوا إلى الاعتراف الموبِق ولا إلى الكتمان المهلك.