التفاسير

< >
عرض

فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ
١٣
إِذْ جَآءَتْهُمُ ٱلرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
١٤
-فصلت

التحرير والتنوير

{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ ٱلرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ }.

بعد أن قَرَعتهم الحجة التي لا تترك للشك مسرباً إلى النفوس بعدها في أَن الله منفرد بالإِلهية لأنه منفرد بإيجاد العوالم كلها. وكان ثبوت الوحدانية من شأنه أن يزيل الريبة في أن القرآن منزَّل من عند الله لأنهم ما كفروا به إلا لأجل إعلانه بنفي الشريك عن الله تعالى، فلما استبان ذلك كان الشأن أن يفيئوا إلى تصديق الرسول والإِيمانِ بالقرآن، وأن يقلعوا عن إعراضهم المحكي عنهم بقوله في أول السورة { { فأعرض أكْثَرُهُم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } [فصلت: 4] الخ، فلذلك جعل استمرارهم على الإِعراض بعد تلك الحجج أمراً مفروضاً كما يُفْرَض المُحال، فجيء في جانبه بحرف (إنْ) الذي الأصل فيه أن يقع في الموقع الذي لا جزم فيه بحصول الشرط كقوله تعالى: { { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين } [الزخرف: 5] في قراءة من قرأ بكسر همزة (إنْ).

فمعنى { فَإنْ أعْرَضُوا } إن استمروا على إعراضهم بعد ما هديتهم بالدلائل البينة وكابروا فيها، فالفعل مستعمل في معنى الاستمرار كقوله: { { ياأيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه ورسوله } [النساء: 136].

والإِنذار: التخويف، وهو هنا تخويف بتوقع عقاب مثل عقاب الذين شابهوهم في الإِعراض خشيةَ أن يحلّ بهم ما حل بأولئك، بناء على أن المعروف أن تجري أفعال الله على سَنن واحد، وليس هو وعيداً لأن قريشاً لم تصبهم صاعقة مثلُ صاعقة عاد وثمود، وإن كانوا قد ساوَوْهما في التكذيب والإِعراض عن الرسل وفي التعللات التي تعللوا بها من قولهم: { { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } [المؤمنون: 24] وأمهل الله قريشاً حتى آمن كثير منهم واستأصل كفارهم بعذاب خاص.

وحقيقة الصاعقة: نار تخرج مع البرق تُحرق ما تصيبه، وتقدم ذكرها في قوله تعالى: { { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق } في سورة البقرة (19). وتطلق على الحادثة المبيرة السريعة الإهلاكِ، ولما أضيفت صاعقة هنا إلى عادٍ وثمود، وعادٌ لم تهلكهم الصاعقة وإنما أهلكهم الريح وثمودُ أهلكوا بالصاعقة فقد استُعمل الصاعقة هنا في حقيقته ومجازه، أو هو من عموم المجاوز والمقتضي لذلك على الاعتبارين قصدَ الإِيجاز، وليقع الإِجمَال ثم التفصيل بعد بقوله: { { فأمَّا عَادٌ } [فصلت: 15] إلى قوله: { { بما كانوا يكسبون } [فصلت: 17].

و{ إذ } ظرف للماضي، والمعنى مثل صاعقتهم حين جاءتهم الرسل إلى آخر الآيات. روى ابن إسحاق في سيرته أن عتبةَ بن ربيعة كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلافِ قومه فتلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم { { حم تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم } [فصلت: 1] حتى بلغ { { فَقُلْ أنذَرْتُكُمْ صٰعِقَةً } [فصلت: 13] الآية، فأمسَكَ عتبةُ على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "ناشدتُك الله والرحم"

. وضمير { جاءتهم } عائد إلى عاد وثمود باعتبار عدد كل قبيلة منهما. وجَمْع الرسل هنا من باب إطلاق صيغة الجمع على الاثنين مثل قوله تعالى: { { فقد صغت قلوبكما } [التحريم: 4]، والقرينة واضحة وهو استعمالٌ غير عزيز، وإنما جاءهم رسولان هود وصالح.

وقوله: { مِن بَيْنِ أيْدِيهم ومِن خَلْفِهِم } تمثيل لحرص رسول كل منهم على هداهم بحيث لا يترك وسيلة يَتوسل بها إلى إبلاغهم الدين إلا توسل بها. فمُثِّل ذلك بالمجيء إلى كل منهم تارة من أمامه وتارة من خلفه لا يترك له جهة، كما يفعل الحريص على تحصيل أمرٍ أَن يتطلبه ويعيد تطلبه ويستوعب مظانّ وجوده أو مظانّ سماعه، وهذا التمثيل نظير الذي في قوله تعالى حكاية عن الشيطان { { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } [الأعراف: 17].

وإنما اقتصر في هذه الآية على جهتين ولم تُستوعب الجهات الأربع كما مُثل حال الشيطان في وسوسته لأن المقصود هنا تمثيل الحرص فقط وقد حصل، والمقصود في الحكاية عن الشيطان تمثيل الحرص مع التلهف تحذيراً منه وإثارة لبُغضه في نفوس الناس. و{ أَلاَّ تعبدوا إلا الله } تفسير لِجملة { جَآءَتهُمُ الرُّسُلُ } لتضمن المجيء معنى الإبلاغ بقرينة كون فاعل المجيء متصفاً بأنهم رسُل، فتكون (أَنْ) تفسيرية لــــ { جاءتهم } بهذا التأويل كقول الشاعر:

إِنْ تحمِلا حاجة لي خفٌ مَحْمَلُهاتَسْتَوْجبَا مِنةً عندي بها ويَدا
أَنْ تَقرَآنِ على أسماءَ ويحكمامني السَّلام وأن لا تُشعرا أحدا

إذ فسر الحاجة بأن يقرأ السلام على أسماء لأنه أراد بالحاجة الرسالة، وهذا جري على رأي الزمخشري والمحققين من عدم اشتراط تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه بل الاكتفاء بتقدم ما أريد به معنى القول ولو لم يكن جملة خلافاً لما أطال به صاحب «مغني اللبيب» من أبحاث لا يرضاها الأريب، أو لما يتضمنه عنوان { الرسل } من إبلاغ رسالة.

{ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلَـٰئِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }

حكاية جواب عاد وثمود لرسولَيْهم فقد كان جواباً متماثلاً لأنه ناشىء عن تفكير متماثل وهو أن تفكير الأذهان القاصرة من شأنه أن يبنَى على تصورات وهمية وأقيسة تخييلية وسفسطائية، فإنهم يتصورون صفات الله تعالى وَأفعاله على غير كنهها ويقيسونها على أحوال المخلوقات، ولذلك يتماثل في هذا حالُ أهل الجهالة كما قال تعالى: { { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [الذاريات: 52،53]، أي بل هم متماثلون في الطغيان، أي الكفر الشديد فتملي عليهم أوهامهم قضايا متماثلة.

ولكون جوابهم جَرَى في سياق المحاورة أتتْ حكاية قولهم غير معطوفة بأسلوب المقاولة، كما تقدم قوله تعالى: { { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30] فإن قول الرسل لهم: لا تعبدوا إلا الله قد حكي بفعل فيه دلالة على القول، وهو فعل { جاءتهم }كما تقدم آنفاً.

فقولهم: { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً } يتضمن إبطال رسالة البشر عن الله تعالى. ومفعول { شاء } محذوف دل عليه السياق، أي لو شاء ربنا أن يرسل إلينا لأنزل ملائكة من السماء مرسَلين إلينا، وهذا حذف خاص هو غير حذف مفعول فعل المشيئة الشائع في الكلام لأن ذلك فيما إذا كان المحذوف مدلولاً عليه بجواب { لوْ } كقوله تعالى: { { فلو شاء لهداكم أجمعين } [الأنعام: 149]، ونكتته الإِبهام ثم البيان، وأما الحذف في الآية فهو للاعتماد على قرينة السياق والإيجاز وهو حذف عزيز لمفعول فعل المشيئة، ونظيره قول المعري:

وإنْ شئتَ فازعُم أَنَّ مَن فوقَ ظهرهاعَبيدُكَ واستَشْهِدْ إلهَكَ يَشْهَدِ

وتضمن كلامهم قياساً استثنائياً تركيبه: لو شاء ربنا أن يرسل رسولاً لأرسل ملائكة ينزلهم من السماء لكنه لم ينزل إلينا ملائكة فهو لم يشأ أن يرسل إلينا رسولاً. وهذا إيماء إلى تكذيبهم الرسل ولهذا فرعوا عليه قولهم: { فَإنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بهِ كٰفِرُونَ } أي جاحدون رسالتكم وهو أيضاً كناية عن التكذيب.