التفاسير

< >
عرض

كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٢٥
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
٢٦
وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ
٢٧
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ
٢٨
-الدخان

التحرير والتنوير

{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَـٰكِهِينَ كَذَٰلِكَ }.

استئناف ابتدائي مسوق للعبرة بعواقب الظالمين المغرورين بما هم فيه من النعمة والقوة، غروراً أنساهم مراقبة الله فيما يرضيه، فموقع هذا الاستئناف موقع النتيجة من الدليل أو البيان من الإجمال لما في قوله: { { ولقد فتنَّا قبلهم قوم فرعون } [الدخان: 17] من التنظير الإجمالي.

وضمير { تركوا } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { { إنهم جند مغرقون } [الدخان: 24].

والترك حقيقته: إلقاء شيء في مَكانٍ منتقلَ عنه إبقاء اختيارياً، ويطلق مجازاً على مفارقة المكان والشيءِ الذي في مكانٍ غلبة دون اختيار وهو مجاز مشهور يقال: ترك الميت مالاً، ومنه سمي مخلف الميت تركة وهو هنا من هذا القبيل.

وفعل { تركوا } مؤذن بأنهم أغرقوا وأعدموا، وذلك مقتضى أن ما أمر الله به موسى من الإسراء ببني إسرائيل وما معه من اتباع فرعون إياهم وانفلاق البحر وإزلاف بني إسرائيل واقتحام فرعون بجنوده البحر، وانضمام البحر عليهم قد تم، ففي الكلام إيجازُ حذفِ جمل كثيرة يدل عليها { كم تركوا }.

و{ كم } اسم لعدد كثير مُبهم يفسِّر نوعَه مميزٌ بعد { كم } مجرورٌ بــ{ من } مذكورةٍ أو محذوفة. وحكم { كم } كالأسماء تكون على حسب العوامل. وإذ كان لها صدر الكلام لأنها في الأصل استفهام فلا تكون خبرَ مبتدأ ولا خبرَ (كان) ولا (إنّ) وإذا كانت معمولة للأفعال وجب تقديمها على عاملها. وانتصب { كم } هنا على المفعول به لــ{ تركوا } أي تركوا كثيراً من جنات. و{ مِن } مميزة لمبهم العدد في { كم }.

والمَقام بفتح الميم: مكان القيام، والقيام هنا مجاز في معنى التمكن من المكان.

والكريم من كل نوع أنفسه وخيره، والمراد به: المساكن والديار والأسواق ونحوها مما كان لهم في مدينة (منفسين).

والنَّعمة بفتح النون: اسم للتنعم مصُوغ على وزنة المرة. وليس المراد به المرة بل مطلق المصدر باعتبار أن مجموع أحوال النعيم صار كالشيء الواحد وهو أبلغ وأجمع في تصوير معنى المصدر، وهذا هو المناسب لِفِعْلِ { تركوا } لأن المتروك هو أشخاص الأمور التي ينعم بها وليس المتروك وهو المعنى المصدري.

و{ فاكهين } متصفين بالفُكاهة بضم الفاء وهي اللعب والمزح، أي كانوا مغمورين في النعمة لاعبين في تلك النعمة. وقرأ الجمهور { فاكهين } بصيغة اسم الفاعل. وقرأه حفص وأبو جعفر { فَكِهين } بدون ألف على أنه صفة مشبهة.

وقوله: { كذلك } راجع لفعل { تركوا }. والتقدير: تركاً مثل ذلك الترك.

والإشارة إلى مقدر دل عليه الكلام ومعنى الكاف، وهذا التركيب تقدم الكلام عليه عند قوله: { { كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبراً } في سورة الكهف (91).

{ وَأَوْرَثْنَـٰهَا قَوْماً آخَرِينَ }.

عطف على { تركوا } أي تركوها وأورثناها غيرهم، أي لفرعون الذي وُلي بعد موت (منفطا) وسمي (صطفا منفطا) وهو أحد أُمراء فرعون (منفطا) تزوج ابنة منفطا المسماةَ (طُوسِير) التي خلفت أباها (منفطا) على عرش مصر، ولكونه من غير نسل فرعون وُصف هو وَجُندُه بقوم آخرين، وليس المراد بقوله: { قوماً آخرين } قوماً من بني إسرائيل، ألا ترى أنه أعيد الاسم الظاهر في قوله عقبه { { ولقد نجينا بني إسرائيل } [الدخان: 30]، ولم يقل ولقد نجيناهم.

ووقع في آية الشعراء { { فأخرجناهم من جناتٍ وعيونٍ وكنوزٍ ومقامٍ كريمٍ كذلك وَأورثناها بني إسرائيل } [الشعراء: 57 ـــ 59] والمراد هنالك أن أنواعاً مما أخرجنا منه قومَ فرعون أورثناها بني إسرائيل، ولم يُقصد أنواعُ تلك الأشياء في خصوص أرض فرعون. ومناسبة ذلك هنالك أن القومَين أخرجا مما كانا فيه، فسُلب أحد الفريقين ما كان له دون إعادة لأنهم هلكوا، وأعطي الفريق الآخَر أمثال ذلك في أرض فلسطين، ففي قوله: { وأورثناها } تشبيه بليغ وانظر آية سورة الشعراء.