التفاسير

< >
عرض

قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١٥
-الجاثية

التحرير والتنوير

إن كانت هذه متصلة بالآي التي قبلها في النزول ولم يصح ما روي عن ابن عباس في سبب نزولها فمناسبة وقعها هنا أن قوله: { { ويل لكل أفّاك أثيم } [الجاثية: 7] إلى قوله: { { لهم عذاب من رجز أليم } [الجاثية: 11] يثير غضب المسلمين على المستهزئين بالقرآن. وَقد أخذ المسلمون يعتزون بكثرتهم فكان ما ذكر من استهزاء المشركين بالقرآن واستكبارهم عن سماعه يتوقع منه أن يبطش بعض المسلمين ببعض المشركين، ويحتمل أن يكون بَدَرَ من بعض المسلمين غضب أو توعد وأن الله علم ذلك من بعضهم.

قال القرطبي والسدي: نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة أصابهم أذى شديد من المشركين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله بالتجاوز عن ذلك لمصلحة في استبقاء الهدوء بمكة والمتاركة بين المسلمين والمشركين ففي ذلك مصالح جمّة من شيوع القرآن بين أهل مكة وبين القبائل النازلين حولها فإن شيوعه لا يخلو من أن يأخذ بمجامع قلوبهم بالرغم على ما يبدونه من إِعراض واستكبار واستهزاء فتتهَيَّأ نفوسهم إلى الدخول في الدين عند زوال ممانعة سادتهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبعد استئصال صناديد قريش يوم بدر. وقد تكرر في القرآن مثل هذا من الأمر بالصفح عن المشركين والعفو عنهم والإعراض عن أذاهم، ولكن كان أكثر الآيات أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه وكانت هذه أمراً له بأن يبلغ للمؤمنين ذلك، وذلك يشعر بأن الآية نزلت في وقت كان المسلمون قد كثروا فيه وأحسّوا بعزتهم. فأمروا بالعفو وأن يكلوا أمر نصرهم إلى الله تعالى، وإن كانت نزلت على سبب خاص عرض في أثناء نزول السورة فمناسبتها لأغراض السورة واضحة لأنها تعليم لما يصلح به مقام المسلمين بمكة بين المضادين لهم واحتمال ما يلاقونه من صَلفهم وتجبرهم إلى أن يقضي الله بينهم.

وقد روي في سبب نزولها أخبار متفاوتة الضعف، فروى مكي بن أبي طالب أن رجلاً من المشركين شتم عمر بن الخطاب فَهَمّ أن يبطش به قال ابن العربي: «وهذا لم يصح». وفي «الكشاف» أن عمر شتمه رجل من غِفار فَهَمَّ أن يبطش به فنزلت. وعن سعيد بن المسيب «كنا بين يدي عمر بن الخطاب فقرأ قارىء هذه الآية فقال عمر: ليَجزِيَ عُمَرَ بما صنع» (يعني أنه سبب نزول الآية). وروى الواحدي والقشيري عن ابن عباس: إنها نزلت في غزوة بني المصطلق: نزلوا على بئر يقال لها: المُرَيَسْع فأرسَل عبدُ الله بن أُبَيّ غلامه ليستقي من البئر فأبطأ، فلما أتاه قال: ما حسبك. قال: غلام عُمر قعد على فم البئر فما ترك أحداً يسقي حتى مَلأ قِرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم وقِرَب أبي بكر ومَلأ لمولاه، فقال عبد الله بن أُبيّ: ما مَثلُنا ومثَلُ هؤلاء إلا كما قال القائل: «سَمِّن كلبَك يأكُلك» فهَمَّ عمر بن الخطاب بقتله، فنزلت. وروى ابن مهران عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى: { { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [البقرة: 245] الآية قال فنحاص اليهودي: احتاج ربّ محمد، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه فنزلت الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فلما جاء قال: ضع سيفك. وهاتان روايتان ضعيفتان ومن أجلهما روي عن عطاء وقتادة وابن عباس أن هذه الآية مدنية.

وأقرب هذه الأخبار ما قاله مكي بن أبي طالب. ولو صحت ما كان فيه ما يفكك انتظام الآيات سواء صادف نزولها تلك الحادثة أو أمر الله بوضعها في هذا الموضع.

وجزْم { يغفروا } على تقدير لام الأمر محذوفاً، أي قل لهم ليغفروا، أو هو مجزوم في جواب { قل }، والمقول محذوف دل عليه الجواب. والتقدير: قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا. وهذا ثقة بالمؤمنين أنهم إذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم امتثلوا. والوجهان يتأتَّيان في مثل هذا التركيب كلما وقع في الكلام، وقد تقدم عند قوله تعالى: { { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } في سورة إبراهيم (31).

و{ الذين لا يرجون أيام الله } يراد بهم المشركون من أهل مكة.

والرجاء: ترقب وتطلب الأمر المحبوب، وهذا أشهر إطلاقاته وهو الظاهر في هذه الآية.

والأيام: جمع يوم، وهذا الجمع أو مفرده إذا أضيف إلى اسم أحد أو قوم أو قبيلة كان المراد به اليوم الذي حصل فيه لمَن أضيف هو إليه نَصر وغلب على معاند أو مُقاتل، ومنه أطلق على أيام القتال المشهورة بين قبائل العرب: أيامُ العرب، أي التي كان فيها قتال بين قبائل منهم فانتصر بعضهم على بعض، كما يقال أيام عبس، وأيام داحس والغبراء، وأيام البَسوس، قال عمرو بن كلثوم :

وأيام لنَا غرٌّ طِوالعَصينا المَلْك فيها إن نَدِينا

فإذا قالوا: أيام بني فلان، أرادوا الأيام التي انتصر فيها من أضيفت الأيام إلى اسمه، ويقولون: أيام بني فلان على بني فلان فيريدون أن المجرور بحرف الاستعلاء مغلوب لتضمن لفظ { أيام } أو (يوم) معنى الانتصار والغلب. وبذلك التضمّن كان المجرور متعلقاً بلفظ { أيام } أو (يوم) وإن كان جامداً، فمعنى { أيام الله } على هذا هو من قبيل قولهم: أيام بني فلان، فيحصل من محمل الرجاء على ظاهر استعماله.

ومحمل { أيام الله } على محمل أمثاله أن معنى الآية للذين لا تترقب نفوسهم أيام نصر الله، أي نصر الله لهم: إما لأنهم لا يتوكلون على الله ولا يستنصرونه بل توجّههم إلى الأصنام، وإما لأنهم لا يخطر ببالهم إلا أنهم منصورون بحولهم وقوتهم فلا يخطر ببالهم سؤال نصر الله أو رجاؤه وهم معروفون بهذه الصلة بين المسلمين فلذلك أجريت عليهم هنا وعرفوا بها. وأوثر تعريفهم بهذه الصلة ليكون في ذلك تعريض بأن الله ينصر الذين يرجون أيام نصره وهم المؤمنون. والغرض من هذا التعريض الإيماء بالموصول إلى وجه أمر المؤمنين أن يغفِروا للمشركين ويصفحوا عن أذى المشركين ولا يتكلفوا الانتصار لأنفسهم لأن الله ضمن لهم النصر.

وقد يطلق { أيام الله } في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم، وهو أحد تفسيرين لقوله تعالى: { { وذَكِّرهم بأيام الله } [إبراهيم: 5].

ومعنى { لا يرجون أيام الله } على هذا التأويل أنهم في شغل عن ترقب نعم الله بما هم فيه من إسناد فعل الخير إلى أصنامهم بانكبابهم على عبادة الأصنام دون عبادة الله ويأتي في هذا الوجه من التعريض والتحريض مثل ما ذكر في الوجه الأول لأن المؤمنين هم الذين يرجون نعمة الله. وفسر به قوله تعالى: { { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } [الفرقان: 21] وقوله: { { ما لكم لا تَرْجَون لله وقاراً } [نوح: 13]، فيكون المراد بــ { أيام الله }: أيام جزائه في الآخرة لأنها أيام ظهور حكمه وعزته فهي تقارب الأيام بالمعنى الأول، ومنه قوله تعالى: { { ذلك اليوم الحقّ } [النبأ: 39]، أي ذلك يوم النصر الذي يحق أن يطلق عليه (يوم) فيكون معنى هذه الآية: أنهم لا يخافون تمكن الله من عقابهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث.

ومعنى الآية أن المؤمنين أمروا بالعفو عن أذى المشركين وقد تكرر ذلك في القرآن قال تعالى: { { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [آل عمران: 186]. وفي «صحيح البخاري» عن أسامة بن زيد في هذه الآية: «وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى».

وقوله: { ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون } تعليل للأمر المستفاد من قوله: { يغفروا } أي ليغفروا ويصفحوا عن أذى المشركين فلا ينتصروا لأنفسهم ليجزيهم الله على إيمانهم وعلى ما أوذوا في سبيله فإن الانتصار للنفس توفية للحق وماذا عساهم يبلغون من شفاء أنفسهم بالتصدّي للانتقام من المشركين على قلتهم وكثرة أولئك فإذا توكلوا على نصر ربّهم كان نصره لهم أتم وأخضد لشوكة المشركين كما قال نوح { { إني مغلوب فانتصر } [القمر: 10]. وهذا من معنى قوله تعالى: { { وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل } [الحجر: 85]. وكان مقتضى الظاهر أن يقال ليجزيهم بما كانوا يكسبون، فعدل إلى الإظهار في مقام الإضمار ليكون لفظُ { قوماً } مشعراً بأنهم ليسوا بمضيعة عند الله فإن لفظ (قوم) مشعر بفريق له قِوامه وعزته { { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا } [محمد: 11].

وتنكير { قوماً } للتعظيم، فكأنه قيل: ليجزي أيما قوم، أي قوماً مخصوصين. وهذا مدح لهم وثناء عليهم. ونحْوُه ما ذكر الطيبي عن ابن جنِّي عن أبي علي الفارسي في قول الشاعر:

أفآت بنو مروان ظلماً دماءناوفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل

قال أبو علي: هو تعالى أعرف المعارف وسماه الشاعر: حكماً عدلاً وأخرج اللفظ مخرج التنكير، ألا ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف اهــ. قيل: والأظهر أن { قوماً } مراد به الإبهام وتنوينه للتنكير فقط.

والمعنى: ليجزي الله كل قوم بما كانوا يكسبون من خير أو شر بما يناسب كسبهم فيكون وعيداً للمشركين المعتدين على المؤمنين ووعداً للمؤمنين المأمورين بالصفح والتجاوز عن أذى المشركين، وهذا وجه عدم تعليق الجزاء بضمير الموقنين لأنه أريد العموم فليس ثمة إظهار في مقام الإضمار ويؤيد هذا قوله: { { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } [فصلت: 46]. وهذا كالتفصيل للإجمال الذي في قوله: { ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون }. ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف على سابقتها، وتقدم نظيره في سورة فصّلت. وقرأ الجمهور { ليجزي قوماً } بتحتية في أوله، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة في قوله: { يَرْجُونَ أَيَّامَ }. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بنون العظمة في أوله على الالتفات. وقرأه أبو جعفر بتحتية في أوله مضمومة وبفتح الزاي على البناء للمجهول ونَصبَ { قوماً }. وتأويلها أن نائب الفاعل مصدر مأخوذ من فعل (يُجْزي). والتقدير: ليجزَى الجزاءُ. { وقوماً } مفعول ثان لفعل (يجزى) من باب كسا وأعطى. وليس هذا من إنابة المصدر الذي هو مفعول مطلق وقد منعه نحاة البصرة بل جعل المصدر مفعولاً أول من باب أعطى وهو في المعنى مفعول ثان لفعل جزى، وإنابة المفعول الثاني في باب كسا وأعطى متفق على جوازه وإن كان الغالب إنابة المفعول الأول كقوله تعالى: { { ثم يُجزاه الجزاءَ الأوفى } [النجم: 41].

وقوله: { ثم إلى ربّكم ترجعون } أي بعد الأعمال في الدنيا تصيرون إلى حكم الله تعالى فيجازيكم على أعمالكم الصالحة والسيئة بما يناسب أعمالكم.

وأطلق على المصير إلى حكم الله أنه رجُوع إلى الله على طريقة التمثيل بحال من كان بعيداً عن سيده أو أميره فعمل ما شاء ثم رجع إلى سيده أو أميره فإنه يلاقي جزاء ما عمله، وقد تقدمت نظائره.