التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٤
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ
٢٥
-الأحقاف

التحرير والتنوير

الفاء لتفريع بقية القصة على ما ذكر منها، أي فلما أراد الله إصابتهم بالعذاب ورأوهُ عارض قالوا: { هذا عارض } إلى آخره، ففي الكلام تقدير يدل عليه السياق، ويسمى التفريع فيه فصيحة، وقد طوي ذكر ما حدث بين تكذيبهم هوداً وبين نزول العذاب بهم، وذكر في كتب تاريخ العرب أنهم أصابهم قحط شديد سنين، وأن هوداً فارقهم فخرج إلى مكة ومات بها، وقد قيل إنه دفن في الحِجر حول الكعبة، وتقدم في سورة الحجر.

وقولهم: { هذا عارض ممطرنا } يشير إلى أنهم كانوا في حاجة إلى المطر. وورد في سورة هود (52) قول هود لهم: { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يُرسِل السماء عليكم مدراراً } وقصتهم مبسوطة في تفسيرنا لسورة هود.

وضمير { رأوه } عائد إلى { { ما تعَدِنا } [الأحقاف: 22]، وهو العذاب. وأطلق على المرئي ضمير العذاب لأن المَرئِي سبب العذاب وهو ما حملته الريح. و { عارضاً } حال منه، والعارض: السحاب الذي يعترض جو السماء أي رأوه كالعارض. وليس المراد عارض المطر لأنه ليس كذلك وكيف قد أبطل قولهم: { هذا عارض ممطرنا } بقوله: { بل هو ما استعجلتم به ريح }. و { مستقبل أوديتهم } نعت لــ { عارضاً }.

والاستقبال: التوجه قبالة الشيء، أي سائراً نحو أوديتهم.

وأودية: جمع وادٍ جمعاً نادراً مثل نادٍ وأندية. ويطلق الواد على محلة القوم ونزلهم إطلاقاً أغلبياً لأنّ غالب منازلهم في السهول ومقارّ المياه. وفي حديث سعد بن معاذ بمكة بعد الهجرة وما جرى بينه وبين أبي جهل من تحاور ورفع صوته على أبي جهل فقال له أمية: لا ترفع صوتك على أبي الحكم سَيِّد أهل الوادي. وجمع الأودية باعتبار كثرة منازلهم وانتشارها.

والعارض في قولهم: { هذا عارض ممطرنا }: السحاب العظيم الذي يعرض في الأفق كالجبل، و{ ممطرنا } نعت لــ { عارض }.

وقوله: { بل هو ما استعجلتم به } مقول لقول محذوف، يجوز أن يكون من قول هود إن كان هود بين ظَهرانيهم ولم يكن خرج قبل ذلك إلى مكة أو هو من قول بعض رجالهم رأى مخائل الشرّ في ذلك السحاب. قيل: القائل هو بكر بن معاوية من قوم عاد. قال لما رآه: «إني لأَرى سحاباً مرمداً لا تدع من عاد أحداً» لعله تبين له الحق من إنذار هود حين رأى عارضاً غير مألوف ولم ينفعه ذلك بعد أن حلّ العذاب بهم، أو كان قد آمن من قبل فنجّاه الله من العذاب بخارق عادة. وإنّما حذف فعل القول لتمثيل قائل القول كالحاضر وقت نزول هذه الآية، وقد سمع كلامهم وعلم غرورهم فنطق بهذا الكلام ترويعاً لهم. وهذا من استحضار الحالة العجيبة كقول مالك بن الريب:

دعاني الهوى من أهل وُدِّي وجِيرتيبذي الشَّيِّطَيْن فالتفتُّ ورائيا

فتخيل داعياً يدعوه فالتفت، وهذا من التخيّل في الكلام البليغ.

وجعل العذاب مظروفاً في الريح مبالغة في التسبب لأن الظرفيّة أشدّ ملابسة بين الظرف والمظروف من ملابسة السبب والمسبب. والتدمير: الإهلاك، وقد تقدم.

و { كل شيء } مستعمل في كثرة الأشياء فإن (كُلاَّ) تأتي كثيراً في كلامهم بمعنى الكثرة. وقد تقدم عند قوله تعالى: { ولو جاءتهم كل آية } في سورة يونس (97).

والمعنى: تدمر ما من شأنه أن تُدمره الريح من الإنسان والحيوان والديار.

وقوله: بأمر ربها } حال من ضمير { تدمر }. وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كلَّ شيء، أي تدميراً عجيباً بسبب أمر ربها، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية. وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرّة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين.

{ فأصبحوا } أي صاروا، وأصبح هنا من أخوات صار. وليس المراد: أن تدميرهم كان ليلاً فإنهم دمّروا أياماً وليالي، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلاً.

والخطاب في قوله: { لا ترى } لمن تتأتّى منه الرؤية حينئذٍ إتماماً لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة.

والمراد بالمساكن: آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها. والمعنى: أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم.

وقوله: { كذلك نجزي القوم المجرمين } أي مثل جزاء عاد نجزي القوم المجرمين، وهو تهديد لمشركي قريش وإنذار لهم وتوطئة لقوله: { ولقد مكناهم فيما إن مكَّنَّاكم فيه } [الأحقاف: 26].

وقرأ الجمهور { لا ترى } بالمثناة الفوقية مبنياً للفاعل وبنصب { مساكنهم } وقرأه عاصم وحمزة وخلف بياء تحتية مبنياً للمجهول وبرفع { مساكنُهم } وأجرى على الجمع صيغة الغائب المفرد لأن الجمع مستثنى بــ { إلاّ } وهي فاصلة بينه وبين الفعل.