التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٧
-المائدة

التحرير والتنوير

هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى. كان أعظمَ ضلال النّصارى ادّعاؤُهم إلهيّة عيسى ـــ عليه السلام ـــ، فإبطال زعمهم ذلك هو أهمّ أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النّور وهديهم إلى الصراط المستقيم، فاستأنف هذه الجملة { لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } استئنافَ البيان. وتعيَّن ذكر الموصول هنا لأنّ المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال، لأنّ ظلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفراً.

وحُكي قولهم بما تؤدّيه في اللغة العربيّة جملة { إنّ الله هو المسيحُ ابن مريم }، وهو تركيب دقيق المعنى لم يعطه المفسّرون حَقّه من بيان انتزاع المعنى المراد به، من تركيبه، من الدلالة على اتّحاد مسمّى هذين الاسمين بطريق تعريف كلّ من المسند إليه والمسند بالعلَمية بقرينة السياق الدالّة على أنّ الكلام ليس مقصوداً للإخبار بأَحداث لِذواتتٍ، المسمّى في الاصطلاح: حملَ اشتقاق بل هو حمل مواطأة، وهو ما يسمّى في المنطق: حمل (هُوَ هُوَ)، وذلك حين يكون كلّ من المسند إليه والمسند معلوماً للمخاطب ويراد بيان أنّها شيء واحد، كقولك حين تقول: قال زياد، فيقول سامعك: من هو زياد، فتقول: زياد هو النّابغة، ومثله قولك: ميمون هو الأعشى، وابن أبي السّمْط هو مروان بن أبي حَفْصة، والمُرعَّث هو بشّار، وأمثال ذلك. فمجرّد تعريف جزأي الإسناد كاف في إفادة الاتّحاد، وإقحام ضمير الفصل بين المسند إليه والمسند في مثل هذه الأمثلة استعمال معروف لا يكاد يتخلّف قصداً لتأكيد الاتّحاد، فليس في مثل هذا التّركيب إفادةُ قصر أحد الجزأين على الآخر، وليس ضمير الفصل فيه بمفيد شيئاً سوى التّأكيد. وكذلك وجود حرف (إنّ) لزيادة التّأكيد، ونظيره قول رُوَيشد بن كثير الطائي من شعراء الحماسة:

وَقُلْ لَهم بَادِروا بالعُذر والتمسواقولاً يبرئكم إنّي أنَا الموت

فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أنّ ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه، وهو الأصحّ؛ أو العكس، وهو قليل، لأنّ مقام اتّحاد المسمَّيين يسوّي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر. وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب «الكشّاف» عقب قوله: { الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } «معناه بتُّ القول على أنّ حقيقة الله هو المسيح لا غير». ومحلّ الشاهد من كلام «الكشّاف» ما عدا قوله (لا غير)، لأنّ الظاهر أن (لا غير) يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التّركيب، وهو بعيد. وقد يقال: إنّه أراد أنّ معنى الانحصار لازم بمعنى الاتّحاد وليس ناشئاً عن صيغة قصر.

ويفيد قولهم هذا أنّهم جعلوا حقيقة الإله الحقّ المعلوم متّحدة بحقيقة عيسى ـــ عليه السلام ـــ بمنزلة اتّحاد الاسمين للمسمّى الواحد، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهيّة في ذات عيسى. ولمّا كانت الحقيقة الإلهيّة معنونة عند جميع المتديّنين باسم الجلالة جَعَل القائلون اسم الجلالة المسندَ إليه، واسمَ عيسى المسند ليدلّوا على أنّ الله اتّحدَ بذات المسيح.

وحكاية القول عنهم ظاهرة في أنّ هذا قالوه صراحة عن اعتقاد، إذ سرى لهم القول باتّحاد اللاهوت بناسوتتِ عيسى إلى حدّ أن اعتقدوا أنّ الله سبحانه قد اتّحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى. وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول. وللنّصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتّحاد أصل، وهو أنّ الله تعالى جوهر واحد، هو مجموع ثلاثة أقانيم (جمع أقنوم ـــ بضمّ الهمزة وسكون القاف ـــ وهو كلمة رومية معناها: الأصل، كما في القاموس؛ وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات، وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، وانقسموا في بيان اتّحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب: مذهب المَلْكانِيَّة وهم الجاثلقية (الكاثوليك)، ومذهب النَّسْطُورية، ومذهب اليَعقوبية. وتفصيله في كتاب «المقاصد». وتقدّم مفصّلاً عند تفسير قوله تعالى: { فآمِنوا بالله ورسُله ولا تقولوا ثلاثة } في سورة [النّساء: 171]. وهذا قول اليعاقبة من النصارى، وهم أتباع يعقوب البرذعاني، وكان راهباً بالقسطنطينية، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة المَلْكَانية، ويقال لِليعاقبة: أصحاب الطبيعة الواحدة، وعليها درج نصارى الحبشة كلّهم. ولا شكّ أنّ نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة.

ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدّى القرآن لبيان ردّها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة. وقد بيّنا حقيقة معتقد النصارى في اتّحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله تعالى: { { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } في سورة [النساء: 171].

وبيّن الله لرسوله الحجّة عليهم بقوله: { قل فمن يملك من الله شيئاً } الآية، فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم: إنّ الله هو المسيح، للدلالة على أنّ الإنكار ترتّب على هذا القول الشنيع، فهي للتعقيب الذِكري، وهذا استعمال كثير في كلامهم، فلا حاجة إلى ما قيل: إنّ الفاء عاطفة على محذوف دلّ عليه السياق، أي ليس الأمر كما زعمتم، ولاَ أنّها جواب شرط مقدّر، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئاً، إلخ.

ومعنى يملك شيئاً هنا يَقْدِر على شيء، فالمركّب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية، وهذا اللازم متعدّد وهو المِلْك، فاستطاعةُ التحويل، وهو استعمال كثير ومنه قوله تعالى: { { قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أرادَ بكم ضَرّا } الآية في سورة [الفتح: 11]. وفي الحديث قال رسول الله لعُيينة بن حِصْن "أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة" لأنّ الذي يملك يتصرّف في مملوكه كيف شاء.

فالتنكير في قوله { شيئاً } للتقليل والتحقير. ولمّا كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضياً نفي الكثير بطريق الأولى، فالمعنى: فمن يقدر على شيء من الله، أي مِنْ فِعْله وتصرفِّه أنْ يحوّله عنه، ونظيره { { وما أغني عنكم من الله من شيء } [يوسف: 67]. وسيأتي لمعنى «يملك» استعمال آخر عند قوله تعالى: { قل أتعبدون من دون الله ما لا يَملك لكم ضرّاً ولا نفعاً } [المائدة: 76] في هذه السورة، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله تعالى: { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } في هذه السورة [المائدة: 41].

وحرف الشرْط من قوله: { إن أراد } مستعمل في مجرّد التّعليق من غير دلالة على الاستقبال، لأنّ إهلاك أمّ المسيح قد وقع بلا خلاف، ولأنّ إهلاك المسيح، أي موته واقع عند المجادَلين بهذا الكلام، فينبغي إرخاءُ العنان لهم في ذلك لإقامة الحجّة، وهو أيضاً واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الّذين قالوا: إنّ الله أماته ورفعه دون أن يُمكَّن اليهودُ منه، كما تقدّم عند قوله تعالى: { وما قتلوه وما صلبوه } [النساء: 157]، وقوله: { { إنّي متوفّيك ورافعك إليّ } [آل عمران: 55]. وعليه فليس في تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال. والمضارع المقترن بأن وهو { أن يهلك } مستعمل في مجرّد المصدرية. والمرادُ بــ { مَن في الأرض } حينئذٍ من كان في زمن المسيح وأمِّه من أهل الأرض فقد هلكوا كلّهم بالضرورة. والتّقدير: مَن يملَك أن يصدّ الله إذْ أراد إهلاك المسيح وأمّه ومن في الأرض يومئذٍ.

ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جَعْل { من في الأرض جميعاً } بمعنى نوع الإنسان، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل { يُهلك } على طريقة التغليب؛ فإنّ بعضها وقع هلكه وهو أمّ المسيح، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعاً، أي إهلاك جميع النّوع، لأنّ ذلك أمر غير واقع ولكنّه مُمكن الوقوع.

والحاصل أنّ استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليباً للمعنى الحقيقي، لأنّ { مَنْ في الأرض } يعمّ الجميع وهو الأكثر. ولم يعطه المفسّرون حقّه من البيان. وقد هلكت مريم أمّ المسيح ـــ عليهما السلام ـــ في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح.

والتذييل بقوله: { ولله ملك السمٰوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء } فيه تعظيم شأن الله تعالى. وردّ آخر عليهم بأنّ الله هو الّذي خلق السماوات والأرض وملك ما فيها من قبل أن يَظهر المسيح، فالله هو الإله حقّاً، وأنّه يخلق ما يشاء، فهو الّذي خلق المسيح خلقاً غير معتاد، فكان موجِب ضلال من نسب له الألوهية. وكذلك قوله: { والله على كلّ شيء قدير }.