التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ
٢٧
لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٨
إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٣٠
-المائدة

التحرير والتنوير

عَطَفَ نبأ على نبإ ليكون مقدّمة للتحذير من قَتْل النفس والحِرابة والسرقة، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها، وليحسن التخلّص ممّا استطرد من الأنباء والقصَص التي هي مواقع عبرة وتُنْظم كلّها في جرائر الغرور. والمناسبةُ بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ. فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى: فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة، وأحدَ ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين. وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصيّة؛ فبنو إسرائيل قالوا: { { اذهب أنت وربّك } [المائدة: 24]، وابن آدم قال: لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه. وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقداماً مذموماً من ابن آدم، وإحجاماً مذموماً من بني إسرائيل، وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى، وفي الأخرى اختلافَ أخوين بالصّلاح والفساد.

ومعنى { ابني آدم } هنا ولداه. وأمّا ابن آدم مفرداً فقد يراد به واحد من البشر نحو: «يَا بْن آدم إنّك ما دعوتني ورجوتَني غَفَرْتُ لك»، أو مجموعاً نحو { يا بني آدم خذوا زينتكم } [الأعراف: 31].

والباء في قوله: { بالحقّ } للملابسة متعلِّقاً بــ { اتْلُ }. والمراد من الحقّ هنا الصدق من حقّ الشّيء إذا ثبت، والصدق هو الثّابت، والكذب لا ثبوت له في الواقع، كما قال: { { نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ } [الكهف: 13]. ويصحّ أن يكون الحقّ ضدّ الباطل وهو الجدّ غير الهزل، أي اتْلُ هذا النبأ متلبّساً بالحقّ، أي بالغرض الصّحيح لا لمجرد التفكّه واللّهو. ويحتمل أن يكون قوله { بالحق } مشيراً إلى ما خفّ بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه.

{ وإذ } ظرف زمان لــ { نبأ }، أي خبرهما الحاصل وقت تقريبهما قُرباناً، فينتصب (إذ) على المفعول فيه.

وفِعْلُ { قرّبا } هنا مشتقّ من القُرْبان الذي صار بمنزلة الاسم الجامد، وأصله مصدر كالشُّكران والغفران والكُفران، يسمّى به ما يتقرّب به المرء إلى ربّه من صدقة أو نُسك أو صلاة، فاشتقّ من القرآن قرّب، كما اشتقّ من النُّسك نَسَكَ، ومن الأضحيّة ضَحَّى، ومن العقيقة عَقّ. وليس { قرّبا } هنا بمعنى أدْنَيَا إذ لا معنى لذلك هنا.

وفي التّوراة هما (قايين) ـــ والعرب يسمّونه قَابِيل ـــ وأخوه (هَابِيل). وكان قابيل فلاّحاً في الأرض، وكان هابيل راعياً للغنم، فقرّب قابيل من ثمار حرْثه قُرباناً وقرّب هابيل من أبكار غنمه قرباناً. ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للنّاس عامّة. فتقبّل الله قربان هَابيل ولم يتقبّل قربان قابيل. والظاهر أنّ قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من الله لآدم. وإنّما لم يتقبّل الله قربان قابيل لأنّه لم يكن رجلاً صالحاً بل كانت له خطايا. وقيل: كان كافراً، وهذا ينافي كونهُ يُقرّب قرباناً.

وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس، وإنّما قرّب كلّ واحد منهما قرباناً وليس هو قرباناً مشتركاً. ولم يسمّ الله تعالى المتقبَّل منه والّذي لم يتقبّل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة. وإنّما حَمَله على قتل أخيه حسَده على مزيّة القبول. والحسد أوّل جريمة ظهرت في الأرض.

وقوله في الجواب { إنّما يتقبّل الله من المتّقين } موعظة وتعريض وتنصّل ممّا يوجب قتله. يقول: القبول فعل الله لا فعل غيره، وهو يتقبّل من المتّقي لا من غيره. يعرّض به أنّه ليس بتَقِي، ولذلك لم يتقبّل الله منه. وآية ذلك أنّه يضمر قتل النفس. ولذا فلا ذَنب، لمن تقبّل الله قربانه، يستوجبُ القتلَ. وقد أفاد قول ابن آدم حصرَ القبول في أعمال المتّقين. فإذا كان المراد من المتّقين معناه المعروف شرعاً المحكي بلفظه الدالّ عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أنّ عمل غير المتّقي لا يقبل؛ فيحتمل أنّ هذا كان شريعتهم، ثمّ نسخ في الإسلام بقبول الحسنَات من المؤمن وإن لم يكن متّقياً في سائر أحواله؛ ويحتمل أنْ يراد بالمتّقين المخلصون في العمل، فيكون عدم القبول أمارة على عدم الإخلاص، وفيه إخْراج لفظ التّقوى عن المتعارف؛ ويحتمل أن يريد بالتقبّل تقبّلاً خاصّاً، وهو التّقبل التّامّ الدالّ عليه احتراق القربان، فيكون على حدّ قوله تعالى: { { هُدى للمتّقين } [البقرة: 2]، أي هدى كاملاً لهم، وقوله: { والآخرة عند ربّك للمتّقين } [الزخرف: 35]، أي الآخرة الكاملة؛ ويحتمل أن يريد تقبّل القرابين خاصّة؛ ويحتمل أن يراد المتّقّين بالقربان، أي المريدين به تقوى الله، وأنّ أخاه أراد بقربانه بأنّه المباهاة. ومعنى هذا الحصر أنّ الله لا يتقبّل من غير المتّقين وكان ذلك شرعَ زمانهم.

وقوله: { لئن بسطتّ إليّ يدك لتقتلني } الخ موعظة لأخيه ليذكّره خطر هذا الجرم الّذي أقدم عليه. وفيه إشعار بأنّه يستطيع دفاعه ولكنّه منعه منه خوفُ الله تعالى. والظاهر أنّ هذا اجتهاد من هابيل في استعظام جُرم قتل النّفس، ولو كان القتل دفاعاً. وقد عَلم الأخوان ما هو القتل بما يعرفانه من ذبح الحيوان والصّيد، فكان القتل معروفاً لهما، ولهذا عزم عليه قابيل، فرأى هابيل للنّفوس حرمة ولو كانت ظالمة، ورأى في الاستسلام لطالب قتله إبقاء على حفظ النّفوس لإكمال مراد الله من تعمير الأرض. ويمكن أن يكونا تلقّيا من أبيهما الوصاية بحفظ النّفوس صغيرها وكبيرها ولو كان في وقت الدّفاع، ولذلك قال: { إنّي أخاف الله ربّ العالمين }. فقوله: { إنّي أخاف الله } يدلّ على أنّ الدّفاع بما يفضي إلى القتل كان محرّماً وأنّ هذا شريعة منسوخة لأنّ الشّرائع تبيح للمُعتدَى عليه أن يدافع عن نفسه ولو بقتل المعْتدي، ولكنّه لا يتجاوز الحدّ الّذي يحصل به الدّفاع. وأمّا حديث «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار» فذلك في القتال على المُلْك وقصد التغالب الّذي ينكفّ فيه المعتدي بتسليم الآخر له؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصْلَح الفريقين بالتّسليم للآخر وحمل التَبِعَة عليه تجنّباً للفتنة، وهو الموقف الّذي وقفه عثمان ـــ رضي الله عنه ـــ رجاء الصلاح.

ومعنى { أريد }: أريد من إمساكي عن الدفاع. وأطلقت الإرادة على العزم كما في قوله تعالى: { { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين } [القصص: 27]، وقوله: { { يريد الله بكم اليسر } [البقرة: 185]. فالجملة تعليل للّتي قبلها، ولذلك فصلت وافتتحت بــ (إنّ) المشعرة بالتَّعليل بمعنى فاء التفريع.

و{ تبوء } ترجع، وهو رجوع مجازي، أي تكتسب ذلك من فعلك، فكأنّه خرج يسعى لنفسه فباء بإثمين. والأظهر في معنى قوله { بإثمي } مَا له من الآثام الفارطة في عمره، أي أرجو أن يغفر لي وتُحمل ذنوبي عليك. وفي الحديث: "يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتّى ينتصف فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات المظلوم فتطرح عليه" . رواه مسلم. فإن كان قد قال هذا عن علم من وحي فقد كان مثل ما شُرع في الإسلام، وإن كان قد قاله عن اجتهاد فقد أصاب في اجتهاده وإلهامه ونطق عن مثل نُبوءة.

ومصدر { أن تبوء } هو مفعول { أريد }، أي أريد من الإمساك عن أن أقتلك إن أقدمت على قتلي أريد أن يقع إثمي عليك، فإثم مراد به الجنس، أي ما عسى أن يكون له من إثم. وقد أراد بهذا موعظة أخيه، ولذلك عطف عليه قوله: { وإثمك } تذكيراً له بفظاعة عاقبة فعلته، كقوله تعالى: { ليحملُوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علم } [النحل: 25]. فعطفُ قوله: { وإثمك } إدماج بذكر ما يحصل في نفس الأمر وليس هو ممّا يريده. وكذلك قوله: { فنكون من أصحاب النار } تذكيراً لأخيه بما عسى أن يكفّه عن الاعتداء. ومعنى { من أصحاب النّار } أي ممّن يطول عذابه في النّار، لأنّ أصحاب النّار هم ملازموهَا.

وقوله: { فطوّعت له نفسه قتل أخيه } دلّت الفاء على التفريع والتعقيب، ودلّ (طَوّع) على حدوث تردّد في نفس قابيل ومغالبة بين دافع الحَسد ودافع الخشية، فعلمنا أنّ المفرّع عنه محذوف، تقديره: فتردّد مَليّاً، أو فترصّد فُرصاً فَطوّعت له نفسه. فقد قيل: إنّه بقي زماناً يتربّص بأخيه، (وطوّع) معناه جعله طائعاً، أي مكَّنه من المطوّع. والطوع والطواعية: ضدّ الإكراه، والتطويع: محاولة الطوع. شُبّه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقّل والخشيةِ. وشبّهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعينه ويذلّل له القتل المتعاصي، فكان (طوّعت) استعارة تمثيلية، والمعنى الحاصل من هذا التمثيل أنّ نفس قابيل سَوّلت له قتل أخيه بعد ممانعة. وقد سُلك في قوله: { فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله } مسلكُ الإطناب، وكان مقتضى الإيجاز أن يحذف { فطوّعت له نفسه قتلَ أخيه } ويقتصر على قوله { فقتَلَه } لكن عدل عن ذلك لقصد تفظيع حالة القاتل في تصوير خواطره الشرّيرة وقساوة قلبه، إذ حدّثه بقتل من كان شأنه الرحمة به والرفق، فلم يكن ذلك إطناباً.

ومعنى { فأصبح من الخاسرين } صار، ويكون المراد بالخسارة هنا خسارة الآخرة، أي صار بذلك القتل ممّن خسر الآخرة، ويجوز إبقاء (أصبح) على ظاهرها، أي غدا خاسراً في الدّنيا، والمراد بالخسارة ما يبدو على الجاني من الاضطراب وسوء الحالة وخيبة الرجاءَ، فتفيد أنّ القتل وقع في الصّباح.