التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
٦٦
-المائدة

التحرير والتنوير

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم }.

إقامة الشيء جعْله قائماً، كما تقدّم في أول سورة البقرة. واستعيرت الإقامة لعدم الإضاعة لأنّ الشيء المضاع يكون مُلْقى، ولذلك يقال له: شَيْء لَقًى، ولأنّ الإنسان يكون في حال قيامه أقْدَر على الأشياء، فلذا قالوا: قامتْ السوق. فيجوز أن يكون معنى إقامة التّوراة والإنجيل إقامة تشريعهما قبل الإسلام، أي لو أطاعوا أوامر الله وعملوا بها سلموا من غَضَبه فلأغْدَق عليهم نعمَه، فاليهود آمنوا بالتَّوراة ولم يقيموا أحكامها كما تقدّم آنفاً، وكفروا بالإنجيل ورفضوه، وذلك أشدّ في عدم إقامَته، وبالقرآننِ. وقد أوْمأت الآية إلى أنّ سبب ضيق معاش اليهود هو من غضب الله تعالى عليهم لإضاعتهم التّوراة وكفرهم بالإنجيل وبالقرآن، أي فتحتّمت عليهم النقمة بعد نزول القرآن.

ويحتمل أن يكون المراد: لو أقاموا هذه الكتب بعد مجيء الإسلام، أي بالاعتراف بما في التّوراة والإنجيل من التبْشير ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم حتّى يؤمنوا به وبما جاء به، فتكون الآية إشارة إلى ضيق معاشهم بعد هجرة الرسول إلى المدينة. ويؤيّده ما روي في سبب نزول قوله تعالى: { { وقالت اليهود يد الله مغلولة } [المائدة: 64] كما تقدّم.

ومعنى { لأكلوا مِن فوقهم ومن تحت أرجلهم } تعميم جهات الرزق، أي لرُزقوا من كلّ سبيل، فأكلوا بمعنى رزقوا، كقوله: { وتأكلون التراث أكْلاً لَمَّا } [الفجر: 19]. وقيل: المراد بالمأكول من فوق ثمارُ الشجر، ومن تحت الحُبوبُ والمقاثي، فيكون الأكل على حقيقته، أي لاستمرّ الخصب فيهم.

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: { { ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتَّقوا لفتحنا عليهم بَركَات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } في سورة الأعراف (96).

واللام في قوله: { لأكلوا من فوقهم } إلخ مثل اللام في الآية قبلها.

{ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ }.

إنصاف لفريق منهم بعد أن جرت تلك المذامّ على أكثرهم.

والمقتصد يطلق على المطيع، أي غيرُ مسرف بارتكاب الذنوب، واقف عند حدود كتابهم، لأنّه يقتصد في سَرف نفسه، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشقّ الآخر { ساء ما يعملون }. وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب، قال تعالى: { { قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [الزمر: 53]، ولذلك يقابل بالاقتصاد، أي الحذر من الذنوب، واختير المقتصد لأنّ المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة، كقوله تعالى: { { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } [فاطر: 32].

فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنّهم بعد الإسلام قسمان سيّء العمل، وهو من لم يسلم؛ وسابق في الخيرات، وهم الّذين أسلموا مثل عبد الله بن سَلاَم ومخيريق. وقيل: المراد بالمقتصد غير المُفْرطين في بغض المسلمين، وهم الّذين لا آمنوا معهم ولا آذوْهم، وضدّهم هم المسيئون بأعمالهم للمسلمين مثل كعب بن الأشرف. فالأوّلون بغضهم قلبي، والآخرون بغضهم بالقلب والعمل السيّء. ويطلق المقتصد على المعتدل في الأمر، لأنّه مشتقّ من القصد، وهو الاعتدال وعدم الإفراط. والمعنى مقتصدة في المخالفة والتنكّر للمسلمين المأخوذ من قوله: { وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً } [المائدة: 68].

والأظهر أن يكون قوله: { ساء } فعلاً بمعنى كان سيّئاً، و{ ما يعملون } فاعله، كما قدّره ابن عطية. وجعله في «الكشاف» بمعنى بِئْس، فقدّر قولاً محذوفاً ليصحّ الإخبار به عن قوله: { وكثير منهم }، بناء على التزام عدم صحّة عطف الإنشاء على الإخبار، وهو محلّ جدال، ويكون { ما يعملون } مخصوصاً بالذمّ، والّذي دعاه إلى ذلك أنّه رأى حمله على معنى إنشاء الذمّ أبلغ في ذمّهم، أي يقول فيهم ذلك كل قائل.