التفاسير

< >
عرض

يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
١٣٠
-الأنعام

التحرير والتنوير

هذا من جملة المقاولة الّتي تجري يوم الحشر، وفصلت الجملة لأنَّها في مقام تعداد جرائمهم التي استحقّوا بها الخلود، إبطالاً لمعذرتهم، وإعلاناً بأنَّهم محقوقون بما جُزوا به، فأعاد نداءهم كما ينادَى المندّد عليه الموبَّخ فيزداد روْعاً.

والهمزة في { ألم يأتيكم } للاستفهام التّقريري، وإنَّما جعل السؤال عن نفي إتيان الرّسل إليهم لأنّ المقرّر إذا كان حاله في ملابسة المقرّر عليه حالَ من يُظنّ به أن يجيب بالنَّفي، يؤتى بتقريره داخلاً على نفي الأمر الّذي المراد إقراره بإثباته، حتّى إذا أقرّ بإثباته كان إقراره أقطع لعُذره في المؤاخذة به،كما يقال للجاني: ألَسْت الفاعل كذا وكذا، وألست القائل كذا، وقد يسلك ذلك في مقام اختبار مقدار تمكّن المسؤول المقرّر من اليقين في المقرّر عليه، فيؤتى بالاستفهام داخلاً على نفي الشّيء المقرّر عليه، حتىّ إذا كانت له شبهة فيه ارتبك وتلعثم. ومنه قوله تعالى: { { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم } [الأعراف: 172]، ولمّا كان حال هؤلاء الجنّ والإنس في التمرّد على الله، ونبذ العمل الصّالح ظهرياً، والإعراض عن الإيمان، حالَ من لم يطرق سمعه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، جيء في تقريرهم على بعثَة الرّسل إليهم بصيغة الاستفهام عن نفي مجيء الرّسل إليهم، حتّى إذا لم يجدوا لإنكار مجيء الرّسل مساغاً، واعترفوا بمجيئهم، كان ذلك أحرى لأخذهم بالعقاب.

والرّسل: ظاهره أنّه جمع رسول بالمعنى المشهور في اصطلاح الشّرع، أي مرسل من الله إلى العباد بما يرشدهم إلى ما يجب عليهم: من اعتقاد وعمل، ويجوز أن يكون جمع رسول بالمعنى اللّغوي وهو من أرسله غيره كقوله تعالى: { { إذْ جاءها المرسلون } [يس: 13] وهم رسل الحواريين بعد عيسى.

فوَصْف الرّسل بقوله: { منكم } لزيادة إقامة الحجّة، أي رسل تعرفونهم وتسمعونهم، فيجوز أن يكون (مِن) اتِّصالية مثل الّتي في قولهم: لَسْتُ منك ولستَ مِنِّي، وليست للتّبعيض، فليست مثل الّتي في قوله: { { هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم } [الجمعة: 2] وذلك أنّ رسل الله لا يكونون إلاّ من الإنس، لأنّ مقام الرّسالة عن الله لا يليق أن يجعل إلاّ في أشرف الأجناس من الملائكة والبشر، وجنسُ الجنّ أحَطّ من البشر لأنَّهم خلقوا من نار.

وتكون (من) تبعيضية، ويكون المراد بضمير: { منكم } خصوص الإنس على طريقة التغليب، أو عود الضّمير إلى بعض المذكور قَبله كما في قوله تعالى: { { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [الرحمٰن: 22] وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر الملح. فأمّا مؤاخذة الجنّ بمخالفة الرّسل فقد يخلق الله في الجنّ إلهاماً بوجوب الاستماع إلى دعوة الرّسل والعمل بها، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الجنّ: { { قُل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنَّا سمعنا قُرآناً عجبا } [الجن: 1] الآية، وقال في سورة الأحقاف (30، 31): { { قالوا يا قَوْمنا إنَّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدّقا لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم } ذلك أن الظواهر تقتضي أنّ الجنّ لهم اتّصال بهذا العالم واطّلاع على أحوال أهله: { { إنَّه يَراكم هو وقبيلُه من حيث لا ترونهم } [الأعراف: 27] فضعف قول من قال بوُجود رسل من الجنّ إلى جنسهم، ونُسب إلى الضحاك، ولذلك فقوله: { ألم يأتيكم } مصروف عن ظاهره من شموله الإنس والجنّ، ولم يرد عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ما يثبت به أنّ الله أرسل رسلاً من الجنّ إلى جنسهم، ويجوز أن يكون رسل الجنّ طوائف منهم يستمعون إلى الأنبياء ويفهمون ما يَدْعون إليه ويبلّغون ذلك إلى أقوامهم، كما تقتضيه الآية في سورة الأحقاف؛ فمؤاخذة الجنّ على الإشراك بالله يقتضيها بلوغ توحيد الله إلى علمهم لأنّ أدلّة الوحدانيّة عقليّة لا تحتاج إلاّ إلى ما يُحرّك النّظر. فلمّا خلق الله للجنّ علماً بما تجيء به رسل الله من الدّعاء إلى النّظر في التّوحيد فقد توجَّهت عليهم المؤاخذة بترك الإيمان بوحدانيّة الله تعالى فاستحقّوا العذاب على الإشراك دون توقف على توجيه الرّسل دعوتهم إليهم.

ومن حسن عبارات أيمّتنا أنَّهم يقولون: الإيمان واجب على مَن بلَغَتْه الدّعوة، دون أن يقولوا: على مَن وُجّهت إليه الدّعوة. وطرق بلوغ الدّعوة عديدة، ولم يثبت في القرآن ولا في صحيح الآثار أنّ النّبيء محمّداً صلى الله عليه وسلم ولا غيرَه من الرّسل، بُعث إلى الجنّ لانتفاء الحكمة من ذلك، ولعدم المناسبة بين الجنسين، وتعذّر تخالطهما، وعن الكلبي أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجنّ، وقاله ابن حزم، واختاره أبو عُمر ابن عبد البرّ، وحكَى الاتِّفاق عليه: فيكون من خصائص النّبيء محمّد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لقدره. والخوض في هذا ينبغي للعالم أن يربأ بنفسه عنه لأنَّه خوض في أحوال عالَم لا يدخل تحت مُدْرَكاتنا، فإنّ الله أنبأنا بأنّ العوالم كلّها خاضعة لسلطانه. حقيق عليها طاعته، إذا كانت مدركة صالحة للتكليف.

والمقصود من الآية الّتي نتكلّم عليها إعلامُ المشركين بأنَّهم مأمورون بالتّوحيد والإسلام وأنّ أولياءهم من شياطين الإنس والجن غير مفلتين من المؤاخذة على نبذ الإسلام. بلْهَ أتْباعهم ودهمائهم. فذكر الجنّ مع الإنس في قوله: { يا معشر الجن والإنس } يوم القيامة لتبكيت المشركين وتحْسيرهم على ما فرط منهم في الدّنيا من عبادة الجنّ أو الالتجاءِ إليهم، على حدّ قوله تعالى: { { ويوم يحشرهم وما يَعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } [الفرقان: 17] وقوله: { { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنتَ قلتَ للنّاس اتَّخذوني وأمِّي إلهين من دون الله } [المائدة: 116].

والقَصّ كالقَصَص: الإخبار، ومنه القصّة للخبر، والمعنى: يخبرونكم الأخْبار الدالّة على وحدانيّة الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فسمّى ذلك قَصَّاً؛ لأنّ أكثره أخبار عن صفات الله تعالى وعن الرّسل وأممهم وما حلّ بهم وعن الجزاء بالنّعيم أو العذاب. فالمراد من الآيات آيات القرآن والأقوالُ الّتي تتلى فيفهمها الجنّ بإلهام، كما تقدّم آنفاً، ويفهمها الإنس ممّن يعرف العربيّة مباشرة ومن لا يعرف العربيّة بالتّرجمة.

والإنذار: الإخبار بما يُخِيف ويُكره، وهو ضدّ البشارة، وتقدّم عند قوله تعالى: { { إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة (119)، وهو يتعدّى إلى مفعول بنفسه وهو الملقى إليه الخبر، ويتعدّى إلى الشّيء المخبر عنه: بالباء، وبنفسه، يقال: أنذرته بكذا وأنذرته كَذا، قال تعالى: { { فأنذرتكم ناراً تلظّى } [الليل: 14]، { { فقُل أنذرتكم صاعقة } [فصلت: 13]، { { وتُنْذِرَ يومَ الجمع } [الشورى: 7] ولمّا كان اللّقاء يوم الحشر يتضمّن خيراً لأهل الخير وشرّا لأهل الشرّ، وكان هؤلاء المخاطبون قد تمحّضوا للشرّ، جُعل إخبار الرّسل إيَّاهم بلقاء ذلك اليوم إنذاراً لأنَّه الطَّرف الّذي تحقّق فيهم من جملة إخبار الرّسل إيَّاهم ما في ذلك اليوم وشرّه. ووصف اليوم باسم الإشارة في قوله: { يومكم هذا } لتهويل أمر ذلك بما يشاهد فيه، بحيث لا تحيط العبارة بوصفه، فيعدل عنها إلى الإشارة كقوله: { { هذه النّار التي كنتم بها تكذّبون } [الطور: 14].

ومعنى قولهم: { شهدنا على أنفسنا } الإقرارُ بما تضمّنه الاستفهام من إتيان الرّسل إليهم، وذلك دليل على أن دخول حرف النّفي في جملة الاستفهام ليس المقصود منه إلاّ قطع المعذرة وأنّه أمر لا يسع المسؤولَ نفيُه، فلذلك أجملوا الجواب: { قالوا شهدنا على أنفسنا }، أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا.

واستعملت الشّهادة في معنى الإقرار لأنّ أصل الشّهادة الإخبار عن أمر تحقّقه المخبر وبيَّنه، ومنه: { { شهد الله أنَّه لا إلٰه إلا هو والملائكةُ وأولوا العلم قائماً بالقسط } [آل عمران: 18]. وشهد عليه، أخبر عنه خبرَ المتثبت المتحقّق، فلذلك قالوا: { شهدنا على أنفسنا } أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا. ولا تنافي بين هذا الإقرار وبين إنكارهم الشّرك في قوله: { { إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين } [الأنعام: 23] لاختلاف المخبر عنه في الآيتين. وفُصِلت جملة: { قالوا } لأنَّها جارية في طريقة المحاورة.

وجملة { وغرتهم الحياة الدنيا } معطوفة على جملة: { قالوا شهدنا } باعتبار كون الأولى خبراً عن تبيّن الحقيقة لهم، وعلمهم حينئذ أنَّهم عَصوا الرّسل ومَن أرسلهم. وأعرضوا عن لقاء يومهم ذلك. فعلموا وعلم السّامع لخبرهم أنَّهم ما وقعوا في هذه الربقة إلاّ لأنَّهم غرّتهم الحياة الدّنيا، ولولا ذلك الغرور لما كان عملهم ممّا يرضاه العاقل لنفسه.

والمراد بالحياة أحوالها الحاصلة لهم: من اللّهو، والتّفاخر، والكبر، والعناد. والاستخفاف بالحقائق، والاغترار بما لا ينفع في العاجل والآجل. والمقصود من هذا الخبر عنهم كشف حالهم، وتحذير السّامعين من دوام التورّط في مثله. فإنّ حالهم سواء.

وجملة: { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } معطوفة على جملة: { وغرتهم الحياة الدنيا } وهو خبر مستعمل في التعجيب من حالهم، وتخطئة رأيهم في الدّنيا. وسوء نظرهم في الآيات، وإعراضهم عن التدبّر في العواقب. وقد رُتّب هذا الخبرُ على الخبر الّذي قبله، وهو اغترارهم بالحياة الدّنيا، لأنّ ذلك الاغترار كان السبب في وقوعهم في هذه الحال حتّى استسلموا وشهدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا في الدّنيا كافرين بالله، فأمّا الإنس فلأنَّهم أشركوا به وعبدوا الجنّ، وأمّا الجنّ فلأنَّهم أغروا الإنس بعبادتهم ووضعوا أنفسهم شركاء لله تعالى، فكِلا الفريقين من هؤلاء كافر، وهذا مثل ما أخبرَ الله عنهم أو عن أمثالهم بمثل هذا الخبر التعجيبي في قوله: { { وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم } [الملك: 10، 11]. فانظر كيف فرّع على قولهم أنَّهم اعترفوا بذنبهم، مع أنّ قولهم هو عين الاعتراف، فلا يفرّع الشّيء عن نفسه، ولكن أريد من الخبر التّعجيب من حالهم، والتسميع بهم، حين ألجئوا إلى الاعتراف في عاقبة الأمر.

وشهادتهم على أنفسهم بالكفر كانت بعد التّمحيص والإلجاء، فلا تنافي أنَّهم أنكروا الكفر في أوّل أمر الحساب، إذ قالوا: { { والله ربّنا ما كنّا مشركين } [الأنعام: 23]. قال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عبّاس: «إنِّي أجد أشياء تختلف عليّ قال اللَّهُ: { { ولا يكتمون الله حديثاً } [النساء: 42]، وقال: { { إلاّ أن قالوا واللَّهِ ربّنا ما كنّا مشركين } [الأنعام: 23]، فقد كَتَموا. فقال ابن عبّاس: إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فقال المشركون: تَعالوا نقل: ما كنّا مشركين، فختم الله على أفواههم فتنطق أيديهم».