التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ٱفْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
١٣٨
-الأنعام

التحرير والتنوير

عطف على جملة: { { وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم } [الأنعام: 137] وهذا ضرب آخر من دينهم الباطل، وهو راجع إلى تحجير التّصرّف على أنفسهم في بعض أموالهم، وتعيين مصارفه، وفي هذا العطف إيماء إلى أنّ ما قالوه هو من تلقين شركائهم وسدنة أصنامهم كما قلنا في مَعْنى زيّن لهم شركاؤُهم.

والإشارة بهذه وهذه إلى حاضر في ذهن المتكلّمين عند صدور ذلك القول: وذلك أن يقول أحدهم هذه الأصناف مصرفها كذا، وهذه مصرفها كذا، فالإشارة من مَحكِيّ قولهم حين يَشْرعون في بيان أحكام دينهم، كما يقول القَاسم: هذا لفلان، وهذا للآخر. وأجمل ذلك هنا إذ لا غرض في بيانه لأنّ الغرض التّعجيب من فساد شرعهم، كما تقدّم في قوله تعالى: { { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [الأنعام: 136] وقد صنّفوا ذلك ثلاثة أصناف:

صنف محجّر على مالكه انتفاعه به، وإنَّما ينتفع به من يعّينه المالك. والّذي يؤخذ ممّا روي عن جابر بن زيد وغيره: أنَّهم كانوا يعيّنون مِن أنعامهم وزرعهم وثمارهم شيئاً يحجّرون على أنفسهم الانتفاع به، ويعيّنونه لمن يشاءون من سدنة بيوت الأصنام، وخدمتها، فتنحر أو تذبح عندما يرى من عُيِّنَت له ذلك، فتكون لحاجة النّاس والوافدين على بيوت الأصنام وإضافتهم، وكذلك الزّرع والثّمار تدفع إلى من عُيّنت له، يصرفها حيث يتعيّن. ومن هذا الصّنف أشياء معيَّنة بالاسم، لها حكم منضبط مثل البَحِيرة: فإنَّها لا تُنحر ولا تُؤكل إلاّ إذا ماتَت حتف أنفها، فيحلّ أكلها للرّجال دون النّساء، وإذا كان لها دَرّ لا يشربه إلاّ سدنة الأصنام وضيوفهم، وكذلك السائبة يَنتفع بدَرّها أبناءُ السَّبيل والسَدنة، فإذا ماتت فأكْلُهَا كالبَحِيرة، وكذلك الحامي، كما تقدّم في سورة المائدة.

فمعنى { لا يطعمها } لا يأكل لحمها، أي يَحرم أكل لحمها. ونون الجماعة في { نشاء } مراد بها القائلون، أي يقولون لا يطعمها إلاّ من نشاء، أي من نُعيِّن أن يطعمها، قال في «الكشاف»: يعنون خدَم الأوثان والرّجال دون النّساء.

والحرث أصله شق الأرض بآلة حديديّة ليزرع فيها أو يغرس، ويطلق هذا المصدر على المكان المحروث وعلى الأرض المزروعة والمغروسة وإن لم يكن بها حرث ومنه قوله تعالى: { { أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } [القلم: 22] فسمّاه حرثاً في وقت جذاذ الثّمار.

والحِجْر: اسم للمحجّر الممنوع، مثل ذبح للمذبوح، فمنع الأنعام منع أكل لحومها، ومنع الحرث منع أكل الحبّ والتّمر والثّمار، ولذلك قال: { لا يطعمها إلا من نشاء }.

وقوله: { بزعمهم } معترض بين { لا يطعمها إلاّ من نشاء } وبين: { وأنعام حرمت ظهورها }. والباء في: { بزعمهم } بمعنى (عن)، أو للملابسة، أي يقولون ذلك باعتقادهم الباطل، لأنَّهم لمّا قالوا: { لا يطعمها } لم يريدوا أنَّهم منعوا النّاس أكلها إلاّ من شاءوه، لأنّ ذلك من فعلهم وليس من زعمهم. وإنَّما أرادوا بالنَّفي نفي الإباحة، أي لا يحلّ أن يطعمها إلاّ من نشاء، فالمعنى: اعتقدوها حراماً لغير من عيّنوه، حتّى أنفسهم، وما هي بحرام، فهذا موقع قوله: { بزعمهم }. وتقدّم القول على الباء من قوله: { بزعمهم } آنفاً عند قوله تعالى: { { فقالوا هذا لله بزعمهم } [الأنعام: 136].

والصّنف الثّاني: أنعام حُرّمت ظهورها، أي حُرّم ركوبها، منها الحامي: لا يَركبه أحد، وله ضابط متّبع كما تقدّم في سورة المائدة، ومنها أنعام يحرّمون ظهورها، بالنّذر، يقول أحدهم: إذا فعلتْ النّاقةُ كذا من نسللٍ أو مواصلة بين عِدة من إناث، وإذا فعل الفحل كذا وكذا، حَرم ظهره. وهذا أشار إليه أبو نواس في قوله مادحاً الأمين:

وإذا المَطيُّ بنا بلغّن محمداًفظهورهن على الرجال حرام

فقوله: { وأنعام حرمت ظهورها } معطوف على: { أنعام وحرث حجر } فهو كخبر عن اسم الإشارة. وعُلم أنَّه عطف صنف لوروده بعد استيفاء الأوصاف الّتي أجريت على خبر اسم الإشارة والمعطوف عليه عقبه. والتّقدير: وقالوا هذه أنعام وحرث حجر وهذه أنعام حرّمت ظهورها وبُني فعل: { حرمت } للمجهول: لظهور الفاعل، أي حرّم الله ظهورها بقرينة قوله: { افتراء عليه }.

والصّنف الثّالث: أنعام لا يذكرون اسم الله عليها، أي لا يذكرون اسم الله عند نحرها أو ذبحها، يزعمون أنّ ما أهدي للجنّ أو للأصنام يُذكر عليه اسم مَا قُرّب له، ويزعمون أنّ الله أمر بذلك لتكون خالصَة القربان لما عُيّنت له، فلأجل هذا الزعم قال تعالى: { افتراء عليه } إذ لا يعقل أن ينسب إلى الله تحريمُ ذِكر اسمه على ما يقرّب لغيره لولا أنَّهم يزعمون أنّ ذلك من القربان الّذي يُرضي الله تعالى، لأنَّه لشركائه، كما كانوا يقولون: «لَبَّيْك لا شريكْ لك، إلاّ شريكاً هُوَ لكْ، تَمْلِكُه ومَا مَلكْ».

وعن جماعة من المفسّرين، منهم أبو وائل، الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها كانت لهم سنّة في بعض الأنعام أن لا يُحجّ عليها، فكانت تُركب في كلّ وجه إلاّ الحجّ، وأنَّها المراد بقوله: { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } لأنّ الحجّ لا يخلو من ذكر الله حين الكون على الرّاحلة من تلبية وتكبير، فيكون: { لا يذكرون اسم الله عليها } كناية عن منع الحجّ عليها، والظاهر أنّ هذه هي الحامي والبحيرة والسّائبة، لأنَّهم لمّا جعلوا نفعها للأصنام لم يجيزوا أن تستعمل في غير خدمة الأصنام.

وقوله: { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } معطوف على قوله: { وأنعام حرمت ظهورها } وهو عطف صنف على صنف، بقرينة استيفاء أوصاف المعطوف عليه، كما تقدّم في نظيره.

وانتصب: { افتراء عليه } على المفعولية المطلقة لــــ { قالوا }، أي قالوا ذلك قولَ افتراء، لأنّ الافتراء بعض أنواع القول، فصحّ أن ينتصب على المفعول المطلق المبين لنوع القول، والافتراء الكذب الّذي لا شبهة لقائله فيه وتقدّم عند قوله تعالى: { { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } في سورة آل عمران (94)، وعند قوله: { { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة العقود (103). وإنَّما كان قولهم افتراء: لأنَّهم استندوا فيه لشيء ليس وارداً لهم من جانب الله، بل هو من ضلال كبرائهم.

وجملة: { سيجزيهم بما كانوا يفترون } استئناف بياني، لأنّ الافتراء على الخالق أمر شنيع عند جميع الخلق، فالإخبار به يثير سؤال من يسأل عمّا سيلقونه من جزاء افترائهم، فأجيب بأنّ الله سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقد أبهم الجزاء للتهويل لتذهب النّفوس كلّ مذهب ممكن في أنواع الجزاء على الإثم، والباء بمعنى (عن)، أو للبدلية والعوض.