التفاسير

< >
عرض

قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
١٥٠
-الأنعام

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي: للانتقال من طريقة الجدل والمناظرة في إبطال زعمهم، إلى إبطاله بطريقة التّبيين، أي أحضروا من يشهدون أنّ الله حرّم هذا، تقصياً لإبطال قولهم من سائر جهاته. ولذلك أعيد أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما يظهر كذب دعواهم.

وإعادة فعل { قل } بدون عطف لاسترعاء الأسماع ولوقوعه على طريقة المحاورة كما قدمناه آنفاً.

و{ هلمّ } اسم فعللِ أمْرٍ للحُضور أو الإحضار، فهي تكون قاصرة كقوله تعالى: { { هلمّ إلينا } [الأحزاب: 18] ومتعدية كما هنا، وهو في لغة أهل الحجاز يلزم حالة واحدة فلا تلحقه علامات مناسبة للمخاطب، فتقول: هلمّ يا زيدُ، وهلمّ يا هندُ، وهكذا، وفي لغة أهل العالية ــــ أعني بني تميم ــــ تلحقه علامات مناسبة، يقولون: هَلُمّي يا هند، وهلُمَّا، وهلُمّوا، وهلْمُمْنَ، وقد جاءَ في هذه الآية على الأفصح فقال: { هلم شهداءكم }.

والشّهداء: جمع شهيد بمعنى شاهد، والأمر للتّعجيز إذ لا يَلقون شهداء يشهدون أنّ الله حرّم ما نسبوا إليه تحريمه من شؤون دينهم المتقدّم ذكرها. وأضيف الشّهداء إلى ضمير المخاطبين لزيادة تعجيزهم، لأنّ شأن المحقّ أن يكون له شهداء يعلمهم فيحضرهم إذا دُعي إلى إحقاق حقّه، كما يقال للرّجل: اركَب فرسك والْحَقْ فلاناً، لأنّ كلّ ذي بيت في العرب لا يَعدِم أن يكون له فرس، فيقول ذلك له من لا يعلم له فرساً خاصاً ولكن الشأن أن يكون له فرس ومنه قوله تعالى: { { يدنين عليهن من جلابيبهن } [الأحزاب: 59] وقد لا يكون لإحداهن جلباب كما ورد في الحديث أنَّه سئل: إذا لم يكن لإحدانا جلباب، قال: لتُلْبِسْها أخْتُها من جلبابها.

ووصفُهم بالموصول لزيادة تقرير معنى إعداد أمثالهم للشّهادة، فالطّالب ينزّل نفسه منزلة من يظنّهم لا يخلُون عن شهداء بحقِّهم من شأنهم أن يشهدوا لهم وذلك تمهيد لتعجيزهم البين إذا لم يحضروهم، كما هو الموثوق به منهم ألا ترى قوله: { { أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا } [الأنعام: 144] فهو يعلم أن ليس ثمة شهداء.

وإشارة { هذا } تشير إلى معلوم من السّياق، وهو ما كان الكلام عليه من أوّل الجدال من قوله: { { ثمانية أزواج } [الأنعام: 143] الآيات، وقد سبقت الإشارة إليه أيضاً بقوله: { { أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا } [الأنعام: 144].

ثمّ فرع على فرض أن يحضروا شهداء يشهدون، قوله: { فإن شهدوا فلا تشهد معهم }، أي إن فرض المستبعد فأحضروا لك شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا الذي زعموه، فكذّبهم وأعلم بأنَّهم شهود زور، فقوله: { فلا تشهد معهم } كناية عن تكذيبهم لأنّ الذي يصدق أحداً يوافقه في قوله، فاستعمل النّهي عن موافقتهم في لازمه، وهو التّكذيب، وإلاّ فإنّ النَّهي عن الشّهادة معهم لمن يعلم أنَّه لا يشهد معهم لأنَّه لا يصدّق بذلك فضلاً على أن يكون شاهده من قبيل تحصيل الحاصل، فقرينة الكناية ظاهرة.

وعُطف على النّهي عن تصديقهم، النّهيُ عن اتّباع هواهم بقوله: { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا }.

وأظهر في مقام الإضمار قوله: { الذين كذبوا بآياتنا } لأنّ في هذه الصّلة تذكيراً بأنّ المشركين يكذّبون بآيات الله، فهم ممّن يتجنّب اتَّباعهم، وقيل: أريد بالذين كذبوا اليهود بناء على ما تقدّم من احتمال أن يكونوا المراد من قوله: { { فإن كذّبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة } [الأنعام: 147] وسمَّى دينهم هوى لعدم استناده إلى مستند ولكنّه إرضاء للهوى. والهوى غلب إطلاقه على محبّة الملائم العاجل الذي عاقبته ضرر. وقد تقدّم عند قوله تعالى: { { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم } في سورة البقرة (145).

وقوله: { والذين لا يؤمنون بالآخرة } عطف على { الذين كذبوا } والمقصود عطف الصّلة على الصّلة لأنّ أصحاب الصّلتين متّحدون، وهم المشركون، فهذا كعطف الصّفات في قول القائل، أنشده الفراء:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليثِ الكتيبة في المزدَحَم

كان مقتضَى الظاهر أن لا يعاد اسم الموصول لأنّ حرف العطف مغن عنه، ولكن أجري الكلام على خلاف مقتصى الظاهر لزيادة التّشهير بهم، كما هو بعض نكت الإظهار في مقام الإضمار. وقيل: أريد بالذين كذّبوا بالآيات: الذين كذّبوا الرّسول عليه الصّلاة والسّلام والقرَآن، وهم أهل الكتابين، وبالذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربِّهم يعدلون: المشركون، وقد تقدّم معنى: { بربهم يعدلون } عند قوله تعالى: { { ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون } في أوّل هذه السورة (1).