التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٤
-الأنعام

التحرير والتنوير

عطف على قوله { ولا تطرد الذين يدعون ربّهم } [الأنعام: 52] وهو ارتقاء في إكرام الذين يدْعون ربَّهم بالغداة والعشي. فهم المراد بقوله: { الذين يؤمنون بآياتنا }.

ومعنى { يؤمنون بآياتنا } أنَّهم يوقنون بأنّ الله قادر على أن ينزّل آيات جمَّة. فهم يؤمنون بما نزّل من الآيات وبخاصّة آيات القرآن وهو من الآيات، قال تعالى: { أو لم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } [العنكبوت: 51].

وقوله: { فقل سلام عليكم } قيل: معناه حَيِّهم بتحيَّة الإسلام، وهي كلمة (سلام عليكم)، وقيل: أبلغهم السلام من الله تعالى تكرمة لهم لمضادّة طلب المشركين طردَهم.

وقد أكرمهم الله كرامتين الأولى أن يبدأهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام حين دخولهم عليه وهي مزيَّة لهم، لأنّ شأن السلام أن يبتدئه الداخل، ثم يحتمل أنّ هذا حكم مستمرّ معهم كلّما أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنّه للمرّة التي يبلّغهم فيها هذه البشارة، فنزّل هو منزلة القادم عليهم لأنَّه زفّ إليهم هذه البشرى.

والكرامةُ الثانية هي بشارتهم برضى الله عنهم بأنّ غفر لهم ما يعملون من سوء إذا تابوا من بعده وأصلحوا. وهذا الخبر وإن كان يعمّ المسلمين كلّهم فلعلّه لم يكن معلوماً، فكانت البشارة به في وجوه المؤمنين يومئذٍ تكرمة لهم ليكونوا ميموني النقيبة على بقية إخوانهم والذين يجيئون من بعدهم.

والسلام: الأمان، كلمة قالتها العرب عند لقاء المرء بغيره دلالة على أنَّه مسالم لا مُحارب لأنّ العرب كانت بينهم دماء وتِرات وكانوا يثأرون لأنفسهم ولو بغير المعتدي من قبيلته، فكان الرجل إذا لقي من لا يعرفه لا يأمن أن يكون بينه وبين قبيلته إحَن وحفائظ فيؤمِّن أحدهما الآخر بقوله: السلام عليكم، أو سلام، أو نحو ذلك. وقد حكاها الله تعالى عن إبراهيم ـــ عليه السلام ـــ ثم شاع هذا اللفظ فصار مستعملاً في التكرمة. ومصدر سلَّم التسليم. والسلام اسم مصدر، وهو يأتي في الاستعمال منكّراً مرفوعاً ومنصوباً؛ ومعرّفاً باللام مرفوعاً لا غير. فأمَّا تنكيره مع الرفع كما في هذه الآية، فهو على اعتباره اسماً بمعنى الأمان، وساغ الابتداء به لأنّ المقصود النوعية لا فرد معيّن. وإنّما لم يقدّم الخبر لاهتمام القادم بإدخال الطمأنينة في نفس المقدوم عليه، أنَّه طارق خير لا طارق شرّ. فهو من التقديم لضرب من التفاؤل. وأمَّا تعريفه مع الرفع فلدخول لام تعريف الجنس عليه.

وكلمة (على) في الحالتين للدلالة على تمكّن التلبّس بالأمان، أي الأمان مستقرّ منكم متلبِّس بكم، أي لا تخف.

وأمّا إن نصبوا مع التنكير فعلى اعتباره كمصدر سلم، فهو مفعول مطلق أتى بدلاً من فعله. تقديره: سلّمت سلاماً، فلذلك لا يؤتى معه بـ(على). ثم إنَّهم يرفعونه أيضاً على هذا الاعتبار فلا يأتون معه بـ (على) لقصد الدلالة على الدوام والثبات بالجملة الاسمية بالرفع، لأنَّه يقطع عنه اعتبار البدلية عن الفعل ولذلك يتعيّن تقدير مبتدأ، أي أمرُكم سلام، على حدّ { { فصبر جميل } [يوسف: 18]. والرفع أقوى، ولذلك قيل: إنّ إبراهيم ردّ تحيَّة أحسن من تحية الملائكة، كما حكي بقوله تعالى: { قالوا سلاماً قال سلام } [هود: 69]. وقد ورد في ردّ السلام أن يكون بمثل كلمة السلام الأولى، كقوله تعالى: { إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً } [الواقعة: 26] وورد بالتعريف والتنكير فينبغي جعل الردّ أحسن دلالة. فأمَّا التعريف والتنكير فهما سواء لأنّ التعريف تعريف الجنس. ولذلك جاء في القرآن ذكر عيسى { وسلام عليه يوم ولد } [مريم: 15] وجاء أنَّه قال: { والسلامُ عليَّ يوم وُلدت } [مريم: 33].

وجملة { كتب ربّكم على نفسه الرحمة } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وهي أول المقصود من المقول، وأمَّا السلام فمقدّمة للكلام. وجوّز بعضهم أن تكون كلاماً ثانياً. وتقدّم تفسير نظيره في قوله تعالى: { كتب على نفسه الرحمة ليجمعنَّكم إلى يوم القيامة } في هذه السورة (12). فقوله هنا { كتب ربُّكم على نفسه الرحمة } تمهيد لقوله: { أنَّه مَنْ عَمِلَ منكم سوءاً بجهالة } الخ.

وقوله: { أنَّه من عمل منكم سوءاً بجهالة } قرأه نافع، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب ـــ بفتح الهمزة ـــ على أنَّه بدل من { الرحمة } بدلُ اشتمال، لأنّ الرحمة العامَّة تشتمل على غفران ذنب من عمل ذنباً ثم تاب وأصلح. وقرأه الباقون ـــ بكسر الهمزة ـــ على أن يكون استئنافاً بيانياً لجواب سؤال متوقّع عن مَبلغ الرحمة. (ومَنْ) شرطية، وهي أدلّ على التعميم من الموصولة. والباء في قوله: { بجهالة } للملابسة، أي ملتبساً بجهالة. والمجرور في موضع الحال من ضمير { عَمل }.

والجهالة تطلق على انتفاء العلم بشيء مَّا. وتطلق على ما يقابل الحلم، وقد تقدّم في قوله تعالى: { إنَّما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } في سورة [النساء: 17]. والمناسب هنا هو المعنى الثاني، أي من عمل سوءاً عن حماقة من نفسه وسفاهة، لأنّ المؤمن لا يأتي السيّئات إلاّ عن غلبة هواه رُشدَه ونُهاه. وهذا الوجه هو المناسب لتحقيق معنى الرحمة. وأمَّا حمل الجهالة على معنى عدم العلم بناء على أنّ الجاهل بالذنب غير مؤاخذ، فلا قوة لتفريع قوله: ثم تاب من بعده وأصلح } عليه، إلاّ إذا أريد ثم تفطَّن إلى أنّه عمل سوءاً.

والضمير في قوله: { مِنْ بعده } عائد إلى { سوءاً } أي بعد السوء، أي بعد عمله. ولك أن تجعله عائداً إلى المصدر المضمون في (عَمِلَ) مثل { اعْدلُوا هُو أقرب للتقوى } [المائدة: 8].

ومعنى { أصلح } صيّر نفسه صالحة، أو أصلح عمله بعد أن أساء. وقد تقدّم عند قوله تعالى: { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ الله يتوب عليه } في سورة [المائدة: 39]. وعند قوله: { إلاّ الذين تابوا وأصلحوا وبيَّنُوا } في سورة [البقرة:160].

وجملة: فإنَّه غفور رحيم } دليل جواب الشرط، أي هو شديد المغفرة والرحمة. وهذا كناية عن المغفرة لهذا التائب المصلح.

وقرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف ـــ بكسر همزة ـــ { فإنَّه غفور رحيم } على أنّ الجملة موكَّدة بــ { إنّ } فيعلم أنّ المراد أنّ الله قد غفر لمن تاب لأنَّه كثير المغفرة والرحمة. وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب { فأنّه } ـــ بفتح الهمزة ـــ على أنَّها (أنّ) المفتوحة أخت (إنّ)، فيكون ما بعدها مؤوّلاً بمصدر. والتقدير: فغفرانه ورحمته. وهذا جزء جملة يلزمه تقدير خبر، أي له، أي ثابت لمن عمل سوءاً ثم تاب.