التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ
٥٧
-الأنعام

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من إبطال الشرك بدليل الوحي الإلهي المؤيِّد للأدلَّة السابقة إلى إثبات صدق الرسالة بدليل من الله مؤيِّد للأدلّة السابقة أيضاً، لييأسوا من محاولة إرجاع الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ عن دعوته إلى الإسلام وتشكيكه في وحيه بقولهم: ساحر، مجنون، شاعر، أساطيرُ الأولين، ولييأسوا أيضاً من إدخال الشكّ عليه في صدق إيمان أصحابه، وإلقاء الوحشة بينه وبينهم بما حاولوا من طرده أصحابَه عن مجلسه حين حضور خصومه، فأمره الله أن يقول لهم إنَّه على يقين من أمر رَبِّه لا يتزعزعُ. وعطف على ذلك جواب عن شبهة استدلالهم على تكذيب الوعيد بما حلّ بالأمم من قبلهم بأنَّه لو كان صدقاً لعجّل لهم العذاب، فقد كانوا يقولون: { اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتِنا بعذاب أليم } [الأنفال: 32] ويقولون: { ربَّنا عجِّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب } [ص: 16]، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم { قُل لو أنّ عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم } [الأنعام: 58]، وأكَّد الجملة بحرف التأكيد لأنَّهم ينكرون أن يكون على بيِّنه من ربِّه.

وإعادة الأمر بالقول لتكرير الاهتمام الذي تقدّم بيانه عند قوله تعالى: { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [الأنعام: 40].

والبيِّنة في الأصل وصف مُؤنّثُ بَيِّن، أي الواضحة، فهي صفة جرت على موصوف محذوف للعلم به في الكلام، أي دلالة بيِّنة أو حجّة بيِّنة. ثم شاع إطلاق هذا الوصف فصار اسماً للحجّة المثبِتة للحقّ التي لا يعتريها شك، وللدلالة الواضحة، وللمعجزة أيضاً، فهي هنا يجوز أن تكون بمعنى الدلالة البيِّنة، أي اليقين. وهو أنسب بـ { على } الدالة على التمكّن، كقولهم: فلان على بصيرة، أي أنّي متمكِّن من اليقين في أمر الوحي.

ويجوز أن يكون المراد بالبيِّنة القرآن، وتكون (على) مستعملة في الملازمة مجازاً مرسلاً لأنّ الاستعلاء يستلزم الملازمة، أي أنِّي لا أخالف ما جاء به القرآن.

و{ مِن ربِّي } صفة لـ{ بيّنة } يفيد تعظيمها وكمالها. و(مِنْ) ابتدائية، أي بيّنة جائية إليّ من ربّي، وهي الأدلَّة التي أوحاها الله إليه وجاء بها القرآن وغيرُه. ويجوز أن تكون (مِنْ) اتّصالية، أي على يقين متّصل بربِّي، أي بمعرفته توحيده، أي فلا أتردّد في ذلك فلا تطمعوا في صرفي عن ذلك، أي أنِّي آمنتُ بإله واحد دلَّت على وجوده ووحدانيته دلائل خلقه وقدرته، فأنا موقن بما آمنت به لا يتطرّقني شك. وهذا حينئذٍ مسوق مساق التعريض بالمشركين في أنَّهم على اضطراب من أمر آلهتهم وعلى غير بصيرة.

وجملة { وكذّبتم به } في موضع الحال من { بيّنة }. وهي تفيد التعجّب منهم أنْ كذّبوا بما دلَّت عليه البيّنة. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { إنِّي على بيِّنة من ربِّي }، أي أنا على بيِّنة وأنتم كذّبتم بما دلَّت عليه البيِّنات فشتَّان بيني وبينكم.

والضمير في قوله: { به } يعود إلى البيِّنة باعتبار تأويلها بالبيان أو باعتبار أن ماصْدَقَها اليقين أو القرآن على وجه جَعْل (مِنْ) ابتدائية، أي وكذّبتم باليقين مكابرة وعناداً، ويعود إلى ربِّي على وجه جعل (مِنْ) اتِّصالية، أي كنت أنا على يقين في شأن ربّي وكذّبتم به مع أنّ دلائل توحيده بيِّنة واضحة. ويعود إلى غير مذكور في الكلام، وهو القرآن لشهرة التداول بينهم في شأنه فإذا أطلق ضمير الغائب انصرف إليه بالقرينة.

والباء التي عدّي بها فعل { كذّبتم } هي لتأكيد لصوق معنى الفعل بمفعوله، كما في قوله تعالى: { وامسحوا برؤوسكم } [المائدة: 6]. فلذلك يدلّ فعل التكذيب إذا عدّي بالباء على معنى الإنكار، أي التكذيب القويّ. ولعلّ الاستعمال أنّهم لا يُعدّون فعل التكذيب بالباء إلاّ إذا أريد تكذيب حجّة أو برهان ممّا يحسب سببَ تصديق، فلا يقال: كذّبتُ بفلان، بل يقال: كذّبت فلاناً قال تعالى: { لَمَّا كذبوا الرسل } [الفرقان: 37] وقال: { كذّبت ثمودُ بالنُذُر } [القمر: 23].

والمعنى التعريضيّ بهم في شأن اعتقادهم في آلهتهم باق على ما بيَّنّاه.

وقوله: { ما عندي ما تستعجلون به } استئناف بياني لأنّ حالهم في الإصرار على التكذيب ممّا يزيدهم عناداً عند سماع تسفيه أحلامهم وتنقّص عقائدهم فكانوا يقولون: لو كان قولك حقّاً فأين الوعيد الذي تَوعّدتنا. فإنّهم قالوا: { اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [الأنفال: 32] وقالوا: { أو تُسْقِط السماء علينا كما زعمت كِسَفا } [الإسراء: 92] فأمر بأن يجيب أن يقول { ما عندي ما تستعجلون به }.

والاستعجال طلب التعجيل بشيء، فهو يتعدّى إلى مفعول واحد، وهو المطلوب منه تعجيل شيء. فإذا أريد ذكر الأمر المعجّل عدّي إليه بالباء. والباء فيه للتعدية. والمفعول هنا محذوف دلّ عليه قوله: { ما عندي }. والتقدير: تستعجلونني به. وأمّا قوله تعالى: { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [النحل: 1] فالأظهرُ أنّ ضمير الغائب عائد لاسم الجلالة، وسيأتي في أوّل سورة النحل.

ومعنى { ما عندي } أنّه ليس في مقدرتي، كما يقال: ما بيدي كذا. فالعندية مجاز عن التصرّف بالعلم والمقدرة. والمعنى: أنِّي لست العليم القدير، أي لست إلهاً ولكنّني عبد مرسل أقف عند ما أرسلتُ به.

وحقيقة (عندَ) أنَّها ظرف المكان القريب. وتستعمل مجازاً في استقرار الشيء لشيء وملكه إيَّاه، كقوله: { وعنده مفاتح الغيب } [الأنعام: 59]. وتستعمل مجازاً في الاحتفاظ بالشيء، كقوله: { وعنده علم الساعة } [الزخرف: 85] { وعند الله مَكْرُهم } [إبراهيم: 46] ولا يحسن في غير ذلك.

والمراد بـ { ما تستعجلون به } العذاب المتوعَّد به. عبَّر بطريق الموصولية لما تنبىء به الصلة من كونه مؤخّراً مدّخراً لهم وأنّهم يستعجلونه وأنّه واقع بهم لا محالة، لأنّ التعجيل والتأخير حالان للأمر الواقع؛ فكان قوله: { تستعجلون } في نفسه وعيداً. وقد دلّ على أنَّه بيد الله وأنّ الله هو الذي يقدّر وقته الذي ينزل بهم فيه، لأنّ تقديم المسند الظرف أفاد قصر القلب، لأنّهم توهّموا من توعّد النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم أنّه توعّدهم بعقاب في مقدرته. فجعلوا تأخّره إخلافاً لتوعّده، فردّ عليهم بأنّ الوعيد بيد الله، كما سيصرّح به في قوله: { إنِ الحكم إلاّ لله }. فقوله: { إن الحكم إلاّ لله } تصريح بمفهوم القصر، وتأكيد له. وعلى وجه كون ضمير { به } للقرآن، فالمعنى كذّبتهم بالقرآن وهو بيِّنة عظيمة، وسألتم تعجيل العذاب تعجيزاً لي وذلك ليس بيدي.

وجملة { يقصّ الحقّ } حال من اسم الجلالة أو استئناف، أي هو أعلم بالحكمة في التأخير أو التعجيل.

وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر { يقُصّ } ـــ بضمّ القاف وبالصاد المهملة ـــ فهو من الاقتصاص، وهو اتِّباع الأثر، أي يجري قدره على أثر الحقّ، أي على وفقه؛ أو هو من القصص، وهو الحكاية أي يحكي بالحق، أي أنّ وعده واقع لا محالة فهو لا يخبر إلاّ بالحق. و{ الحقّ } منصوب على المفعولية به على الاحتمالين.

وقرأ الباقيون { يَقْض } ـــ بسكون القاف وبضاد معجمة مكسورة ـــ على أنَّه مضارع (قضى)، وهو في المصحف بغير ياء. فاعتُذر عن ذلك بأنّ الياء حُذفت في الخطّ تبعاً لحذفها في اللفظ في حال الوصل، إذ هو غير محلّ وقف، وذلك ممّا أجري فيه الرسم على اعتبار الوصل على النادر كما كتب { سندعُ الزبانيةُ } [العلق: 18]. قال مكِّي قراءة الصّاد (أي المهملة) أحبّ إليّ لاتّفاق الحرمييْن (أي نافع وابن كثير) عليها ولأنَّه لو كان من القضاء للزمت الباء الموحَّدة فيه، يعني أن يقال: يقص بالحق. وتأويله بأنّه نصب على نزع الخافض نادر. وأجاب الزّجاج بأنّ { الحقّ } منصوب على المفعولية المطلقة، أي القضاء الحقّ، وعلى هذه القراءة ينبغي أن لا يوقف عليه لئلاّ يضطرّ الواقف إلى إظهار الياء فيخالف الرسم المصحفي.

وجملة: { وهو خير الفاصلين } أي يقصّ ويخبر بالحقّ، وهو خير من يفصل بين الناس، أو يقضي بالحقّ، وهو خير من يفصل القضاء.

والفصْل يطلق بمعنى القضاء. قال عُمر في كتابه إلى أبي موسى «فإنّ فصْل القضاء يورث الضغائن». ويطلق بمعنى الكلام الفاصل بين الحقّ والباطل، والصواب والخطأ، ومنه قوله تعالى: { وآتيناه الحكمة وفصْلَ الخطاب } [ص: 20] وقوله: { إنَّه لَقَوْل فصْل } [الطارق: 13]. فمعنى { خير الفاصلين } يشمل القول الحقّ والقضاء العدل.