التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٦٣
قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
٦٤
-الأنعام

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي. ولمَّا كان هذا الكلام تهديداً وافتتح بالاستفهام التقريري تعيَّن أنّ المقصود بضمائر الخطاب المشركون دون المسلمين. وأصرح من ذلك قوله: { ثم أنتم تشركون }.

وإعادة الأمر بالقول للاهتمام، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى: { قل أرأيتِكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [الأنعام: 40] الآية. والاستفهام مستعمل في التقرير والإلجاء، لكون ذلك لا ينازعون فيه بحسب عقائد الشرك.

والظلمات قيل على حقيقتها، فيتعيَّن تقدير مضاف، أي من إضرار ظلمات البرّ والبحر، فظلمات البرّ ظلمة الليل التي يلتبس فيها الطريق للسائر والتي يخشى فيها العدوّ للسائر وللقاطن، أي ما يحصل في ظلمات البرّ من الآفات. وظلمات البحر يخشى فيها الغرق والضلال والعدوّ. وقيل: أطلقت الظلمات مجازاً على المخاوف الحاصلة في البرّ والبحر، كما يقال: يوم مُظلم إذا حصلت فيه شدائد. ومن أمثال العرب (رأى الكواكب مُظْهِراً)، أي أظلم عليه يومه إظلاماً في عينيه لما لاقاه من الشدائد حتَّى صار كأنَّه ليل يرى فيه الكواكب. والجمع على الوجهين روعي فيه تعدّد أنواع ما يعرض من الظلمات، على أنَّنا قدّمنا في أوّل السورة أنّ الجمع في لفظ الظلمات جَرى على قانون الفصاحة. وجملة: { تدعونه } حال من الضمير المنصوب في { يُنَجِّكُمْ }.

وقرىء { من ينجِّيكم } ـــ بالتشديد ـــ لنافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبي جعفر، وخلف. وقرأه يعقوب ـــ بالتخفيف ـــ.

والتضرّع: التذلّل، كما تقدّم في قوله: { لعلَّهم يتضرّعون } في هذه السورة (42). وهو منصوب على الحال مؤوّلاً باسم الفاعل. والخفية بضم الخاء وكسرها ضد الجهر. وقرأه الجمهور بضم الخاء. وقرأه أبو بكر عن عاصم بكسر الخاء وهو لغة مثل أسوة وإسوة. وعطف { خفية } على { تضرّعاً } إمَّا عطف الحال على الحال كما تعطف الأوصاف فيكون مصدراً مؤوّلاً باسم الفاعل، وإما أن يكون عطف المفعول المطلق على الحال على أنَّه مبيّن لنوع الدعاء، أي تدعونه في الظلمات مخفين أصواتكم خشية انتباه العدوّ من النّاس أو الوحوش.

وجملة { لئِن أنجيتنا } في محلّ نصب بقول محذوف، أي قائلين. وحذف القول كثير في القرآن إذا دلَّت عليه قرينة الكلام. واللام في { لئن } الموّطئة للقسم، واللام في { لَنكوننّ } لام جواب القسم. وجيء بضمير الجمع إمَّا لأنّ المقصود حكاية اجتماعهم على الدعاء بحيث يدعو كلّ واحد عن نفسه وعن رفاقه. وإمَّا أريد التعبير عن الجمع باعتبار التوزيع مثل: ركِبَ القوم خَيْلَهم، وإنَّما ركب كلّ واحد فَرَساً.

وقرأ الجمهور { أنجيتنا } ـــ بمثناة تحتية بعد الجيم ومثناة فوقية بعد التحتية ـــ. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي وخلف { أنجانا } ـــ بألف بعد الجيم ـــ والضمير عائد إلى { مَنْ } في قوله: { قل من ينجيّكم }.

والإشارة بـ { هذه } إلى الظلمة المشاهدة للمتكلِّم باعتبار ما ينشأ عنها، أو باعتبار المعنى المجازي وهو الشدّة، أو إلى حالة يعبّر عنها بلفظ مؤنّث مثل الشدّة أو الورطة أو الربْقة.

والشاكر هو الذي يراعي نعمة المنعم فيحسن معاملته كلّما وجد لذلك سبيلاً. وقد كان العرب يرون الشكر حقَّاً عظيماً ويعيّرون من يكفر النعمة.

وقولهم: { من الشاكرين } أبلغ من أن يقال: لنكوننَّ شاكرين، كما تقدّم عند قوله تعالى: { لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين } [الأنعام: 56].

وجملة: { قل الله ينجيكم منها } تلقين لجواب الاستفهام من قوله: { مَنْ يُنجّيكم } أن يُجيب عن المسؤولين، ولذلك فصلت جملة { قل } لأنَّها جارية مجرى القول في المحاورة، كما تقدّم في هذه السورة. وتولَّى الجواب عنهم لأنّ هذا الجواب لا يسعهم إلاّ الاعتراف به.

وقدّم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة الاختصاص، أي الله ينجيكم لا غيره، ولأجل ذلك صرّح بالفعل المستفهم عنه. ولولا هذا لاقتصر على { قل الله }. والضمير في { منها } للظلمات أو للحادثة. وزاد { مِنْ كلّ كرب } لإفادة التعميم، وأنّ الاقتصار على ظلمات البرّ والبحر بالمعنيين لمجرّد المثال.

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وهشام عن ابن عامر، ويعقوب { يُنجيكم } ـــ بسكون النون وتخفيف الجيم ـــ على أنَّه من أنجاه، فتكون الآية جمعت بين الاستعمالين. وهذا من التفنّن لتجنّب الإعادة. ونظيره { فمهِّل الكافرين أمْهِلْهُم } [الطارق: 17]. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر، وخلف، وعاصم، وحمزة، والكسائي { يُنجِّيكم } ـــ بالتشديد ـــ مثل الأولى.

و{ ثم } من قوله: { ثم أنتم تشركون } للترتيب الرتبي لأنّ المقصود أنّ إشراكهم مع اعترافهم بأنَّهم لا يلجأون إلاّ إلى الله في الشدائد أمر عجيب، فليس المقصود المهلة.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لمجرّد الاهتمام بخبر إسناد الشرك إليهم، أي أنتم الذين تتضرّعون إلى الله باعترافكم تُشركون به من قَبل ومن بعد، من باب { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [البقرة: 85]، ومن باب: لو غيرُك قالها، ولو ذاتُ سِوار لَطَمَتْنِي.

وجيء بالمسند فعلاً مضارعاً لإفادة تجدّد شركهم وأنّ ذلك التجدّد والدوامَ عليه أعجب.

والمعنى أنّ الله أنجاكم فوعدتم أن تكونوا من الشاكرين فإذا أنتم تشركون. وبيْن { الشاكرين } و{ تشركون } الجناس المحرّف.