التفاسير

< >
عرض

وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ
١١٣
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
١١٤
قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ
١١٥
قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّآ أَلْقَوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
١١٦
-الأعراف

التحرير والتنوير

عطفت جملة { وجاء السحرة } على جملة: { { قالوا أرجه وأخاه وأرْسلْ في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم } [الأعراف: 111، 112] وفي الكلام إيجاز حذف. والتقدير: قالوا أرجه وأخاه وأرسل الخ، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين فحشروا وجاء السحرة من المدائن فحضروا عند فرعون.

فالتعريف في قوله: { السحرة } تعريف العهد. أي السحرة المذكورون، وكان حضور السحرة عند فرعون في اليوم الذي عينه موسى للقاء السحرة وهو المذكور في سورة طه.

وجملة: { قالوا إن لنا لأجراً } استئناف بياني بتقدير سؤال من يسأل: ماذا صدر من السحرة حين مثُلوا بين يدي فرعون؟.

وقرأ نافع، وابن كثير، وحفص، وأبو جعفر { إن لنا لأجراً } ابتداء بحرف (إن) دون همزة استفهام، وقرأه الباقون بهمزة استفهام قبل (إن).

وعلى القراءتين فالمعنى على الاستفهام، كما هو ظاهر الجواب بــــ { نعم }، وهمزة الاستفهام محذوفة تخفيفاً على القراءة الأولى، ويجوز أن يكون المعنى عليها أيضاً على الخبرية لأنهم وثقوا بحصول الأجر لهم، حتى صيروه في حيز المخبر به عن فرعون، ويكون جواب فرعون بـ { نعم } تقريراً لما أخبروا به عنه.

وتنكير { أجراً } تنكير تعظيم بقرينة مقام المَلِك وعظم العمل، وضمير { نحن } تأكيد لضمير { كنا } إشعاراً بجدارتهم بالغلَب، وثقتهم بأنهم أعلم الناس بالسحر، فأكدوا ضميرهم لزيادة تقرير مدلوله، وليس هو بضمير فصل إذ لا يقصد إرادة القصر، لأن إخبارهم عن أنفسهم بالغالبين يغني عن القصر، إذ يتعين أن المغلوب في زعمهم هو موسى عليه السلام.

وقول فرعون { نعم } إجابة عما استفهموا، أو تقرير لما توسموا: على الاحتمالين المذكورين في قوله: { إن لنا لأجراً } آنفاً، فحرف (نعم) يقرر مضمون الكلام الذي يجاب به، فهو تصديق بعد الخبر، وإعلام بعد الاستفهام، بحصول الجانب المستفهم عنه، والمعنيان محتملان هنا على قراءة نافع ومن وافقه، وأما على قراءة غيرهم فيتعين المعنى الثاني.

وعُطف جملة: { إنكم لمن المقربين } على ما تضمنه حرف الجواب إذ التقدير: نعم لكم أجر وإنكم لمن المقربين، وليس هو من عطف التلقين: لأن التلقين إنما يعتبر في كلامين من متكلميْن لا من متكلم واحد.

وفصلت جملة: { قالوا يا موسى } لوقوعها في طريقة المحاورة بينهم وبين فرعون وموسى، لأن هؤلاء هم أهل الكلام في ذلك المجمع.

و{ إمّا } حرف يدل على الترديد بين أحد شيئين أو أشياء، ولا عمل له ولا هو معمول، وما بعده يكون معمولاً للعامل الذي في الكلام. ويَكون (إما) بمنزلة جزء كلمة مثل أل المعرفة، كقول تأبط شراً:

هُمَا خُطّتَا إما إسارٍ ومنّةٍوإمّا دَمٍ والموتُ بالحر أجدر

وقوله: { أنْ تُلْقي } وقوله: { أن نكون نحن الملقين } يجوز كونهما في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف، أي إما إلقاؤك مقدم وإما كوننا ملقين مقدم، وقد دل على الخبر المقام لأنهم جاءوا لإلقاء آلات سحرهم، وزعموا أن موسى مثلهم. وفي «الكشاف» في سورة طه، جَعَل { إما أن تلقي } خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا، ولما كان الواقع لا يخلو عن أحد هذين الأمرين لم يكن المقصود بالخبر الفائدة لأنها ضرورية، فلا يحسن الإخبار بها مثل: السماء فوقنا، فتعين أن يكون الكلام مستعملاً في معنى غير الإخبار، وذلك هو التخيير أي: إِما أن تبتدىء بإلقاء آلات سحرك وإما أن نبتدىء، فاختر أنت أحد مرين ومن هنا جازَ جَعل المصدرين المنسبكين في محل نصب بفعل تخيير محذوف، كما قدره الفراء وجوزه في «الكشاف» في سورة طه، أي: اختر أن تلقي أو كوننا الملقين، أي: في الأولية، ابتدأ السحرة موسى بالتخيير في التقدم إظهاراً لثقتهم بمقدرتهم وإنهم الغالبون، سواء ابتدأ السحرة موسى بالأعمال أم كانوا هم المبتدئين، ووجه دلالة التخيير على ذلك أن التقدم في التخييلات والشعوذة أنجح للبادىء لأن بديهتها تمضي في النفوس وتستقر فيها، فتكون النفوس أشد تأثراً بها من تأثرها بما يأتي بعدها، ولعلهم مع ذلك أرادوا أن يسبروا مقدار ثقة موسى بمعرفته مما يبدو منه من استواء الأمرين عنده أو من الحرص على أن يكون هو المقدم، فإن لاستضعاف النفس تأثيراً عظيماً في استرهابَها وإبطال حيلتها، وقد جاءوا في جانبهم بكلام يسترهب موسى ويهول شأنهم في نفسه، إذ اعتنوا بما يدل على ذواتهم بزيادة تقرير الدلالة في نفس السامع المعبر عنها في حكاية كلامهم بتأكيد الضمير في قوله: { وإما أن نكون نحن الملقين }.

وبذلك تعلم أن المقام لا يصلح لاحتمال أنهم دلوا على رغبتهم في أن يُلقوا سحرهم قبل موسى، لأن ذلك ينافي إظهار استواء الأمرين عندهم، خلافاً لما في «الكشاف» وغيره، ولذلك كان في جواب موسى إياهم بقوله: { ألْقُوا } استخفافٌ بأمرهم إذ مكّنهم من مباداة إظهار تخييلاتهم وسحرهم، لأن الله قوّى نفس موسى بذلك الجواب لتكون غلبته عليهم بعد أن كانوا هم المبتدئين أوقعَ حجةٍ وأقطع معذرة، وبهذا يظهر أن ليس في أمر موسى ــــ عليه السلام ــــ إياهم بالتقدم ما يقتضي تسويغ معارضة دعوة الحق لأن القوم كانوا معروفين بالكفر بما جاء به موسى فليس في معارضتهم إياه تجديد كفر، ولأنهم جاءوا مصممين على معارضته فليس الإذن لهم تسويغاً، ولكنهم خيروه في التقدم أو يتقدموا فاختار أن يتقدموا لحكمة إلهية تزيد المعجزة ظهوراً، ولأن في تقديمه إياهم إبلاغاً في إقامة الحجة عليهم، ولعل الله ألقى في نفسه ذلك، وفي هذا دليل على جواز الابتداء بتقرير الشبهة للذي يثق بأنه سيدفعها.

وقوله { فلما ألقوا } عطف على محذوف للإيجاز، والتقدير: فألْقَوا. لأن قوله: { فلما ألقوا } يؤذن بهذا المحذوف، وحذف مفعول { ألقَوا } لظهوره، أي: ألقوا آلات سحرهم.

ومعنى { سحروا أعين الناس }: جعلوها متأثرة بالسحر بما ألقَوا من التخييلات والشعوذة.

وتعدية فعل { سحروا } إلى { أعين } مجاز عقلي لأن الأعين آلة إيصال التخييلات إلى الإدراك، وهم إنما سحروا العقول، ولذلك لو قيل: سحروا الناسَ لأفاد ذلك، ولكن تفوت نكتة التنبيه على أن السحر إنما هو تخيلات مرئية، ومثل هذه الزيادة زيادة الأعين في قول الأعشى:

كذَلكَ فافْعَلْ ما حيَيتَ إذا شَتَوْاوَأقْدِم إذَا مَا أعْيُنُ النّاس تَفرقَ

أي إذا ما الناس تفرَق فَرَقا يحصل من رؤية الأخطار المخيفة.

والاسترهاب: طلب الرهب أي الخَوْف. وذلك أنهم عززوا تخيلات السحر بأمور أخرى تثير خوف الناظرين، لتزداد تمكن التخيلات من قلوبهم، وتلك الأمور أقوال وأفعال توهم أن سيقع شيء مُخيف كأن يقولوا للناس: خُذوا حذركم وحاذروا، ولا تقتربوا، وسيقع شيء عظيم، وسيحضر كبير السحرة، ونحو ذلك من التمويهات، والخزعبلات، والصياح، والتعجيب.

ولك أن تجعل السين والتاء في { واسترهبوهم } للتأكيد، أي: أرهبوهم رهَبا شديداً، كما يقال استكبر واستجاب.

وقد بينت في تفسير قوله تعالى: { يعلّمون الناس السحر } من سورة البقرة (102) أن مبنى السحر على التخييل والتخويف.

ووصف السحر بالعظيم لأنه من أعظم ما يفعله السحرة إذ كان مجموعاً مما تفرق بين سحرة المملكة من الخصائص المستورة بالتوهيم الخفية أسبابها عن العامة.