التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ
١٥٢
وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٥٣
-الأعراف

التحرير والتنوير

يجوز أن قوله: { إن الذين اتخذوا العجل } إلى قوله: { الدنيا } من تمام كلام موسى، فبعد أن دعا لأخيه بالمغفرة أخبر أن الله غضب على الذين عبدوا العجل. وأنه سيظهر أثر عضبه عليهم، وستنالهم ذلة في الدنيا وذلك بوحي تلقاه، وانتهى كلام موسى عند قوله: { في الحياة الدنيا }، وأن جملة: { وكذلك نجزي المفترين } خطاب من جانب الله في القرآن، فهو اعتراض والواو اعتراضية ذيل الله بهذا الاعتراض حكاية كلام موسى فأخبر بأنه يجازي كل مفتر بمثل ما أخبر به موسى عن مفتري قومه، وأن جملة: { والذين عملوا السيئات } إلى آخر الآية تكملة للفائدة ببيان حالة أضداد المتحدث عنهم وعن أمثالهم.

ويجوز أن تكون جملة: { إن الذين اتخذوا العجل } إلى آخرها خطاباً من الله لموسى، جواباً عن دعائه لأخيه بالمغفرة بتقدير فعللِ قول محذوف: أي قلنا إن الذين اتخذوا العجل إلى آخره، مثل ما حكى الله تعالى عن إبراهيم في قوله تعالى: { { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً } [البقرة: 126] الآية.

و{ ينالهم } يصيبهم.

والنول والنّيْل: الأخذُ وهو هنا استعارة للإصابة والتلبس كما في قوله تعالى: { { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } في هذه السورة (37)، والذين اتخذوا العجل هم الذين عبدوه فالمفعول الثاني { لاتخذوا } محذوف اختصاراً، أي اتخذوه إلاهاً.

وتعريفهم بطريق الموصولية، لأنها أخصر طريق في استحضارهم بصفة عرفوا بها، ولأنه يؤذن بسببية ما نالهم من العقاب، والمراد بالغضب ظهور أثره من الخذلان ومنع العناية، وأما نفس الغضب فهو حاصل في الحال.

وغضب الله تعالى إرادته السوء بعبده وعقابه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما.

والذلة: خضوع في النفس واستكانة من جرّاء العجز عن الدفع، فمعنى: نيل الذلّة إياهم أنهم يصيرون مغلوبين لمن يغلبهم، فقد يكون ذلك بتسليط العدو عليهم، أو بسلب الشجاعة من نفوسهم. بحيث يكونون خائفين العدو، ولو لم يسلّط عليهم، أو ذلّة الاغتراب إذ حرمهم الله ملك الأرض المقدسة فكانوا بلا وطن طول حياتهم حتى انقرض ذلك الجيل كله، وهذه الذلّة عقوبة دنيوية قد لا تمحوها التوبة، فإن التوبة إنما تقتضي العفو عن عقاب التكليف، ولا تقتضي ترك المؤاخذة بمصائب الدنيا، لأن العقوبات الدنيوية مسببات تنشأ عن أسبابها، فلا يلزم أن ترفعها التوبة إلا بعناية إلهية خاصة، وهذا يشبه التفرقة بين خطاب الوضع وخطاب التكليف كما يؤخذ من حديث الإسراء لما أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناءَيْن أحدهما من لبن والآخر من خمر، فاختار اللبن، فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر لغَوَتْ أمتك، هذا وقد يمحو الله العقوبة الدنيوية إذا رَضي عن الجاني والله ذو فضل عظيم.

والقول في الإشارة من قوله: { وكذلك } تقدم في قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة (143)، أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المفترين.

والافتراء الكذب الذي لا شبهة لكاذبه في اختلاقه، وقد مضى في قوله تعالى: { { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } في سورة المائدة (103).

والمراد بالافتراء الاختلاق في أصول الدين بوضع عقائِدَ لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة العقل أو من دلالة الوحي، فإن موسى عليه السلام كان حذرهم من عبادة الأصنام كما حكاه الله فيما مضى في قوله تعالى: { { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم... } [الأعراف: 138 ـــ 140] الآيات الثلاث المتقدمة آنفاً، فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضبَ والذلة، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم الموعظة من الله، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلاّء، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهداهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة، فأزال مهابتهم من قلوب العرب، واستأصلهم قتلاً وأسراً، وسلَب ديارهم، فلما أسلم منهم من أسلموا صاروا أعزة بالإسلام.

ويؤخذ من هذه الآية أن الكذاب يُرمى بالمذلّة.

وقوله: { والذين عملوا السيئات ثم تابوا } الآية اعتراض بأنهم إن تابوا وآمنوا يغفر الله لهم على عادة القرآن من تعقيب التهديد بالترغيب، والمغفرة ترجع إلى عدم مؤاخذتهم بذنوبهم في عقاب الآخرة، وإلى ارتفاع غضب الله عنهم في المستقبل، والمراد بالسيئات: ما يشمل الكفر، وهو أعظم السيّئات. والتوبةُ منه هي الإيمان.

وفي قوله: { من بعدها } في الموضعين حذف مضاف قبل ما أضيفت إليه (بَعْد) ــــ وقد شاع حذفهُ ــــ دل عليه { عملوا } أي من بَعد عَملها، وقد تقدم الكلام على حذف المضاف مع (بعد) و(قبل) المضافين إلى مضاف للمضاف إليه عند قوله تعالى: { ثم اتخذتم العجل من بعده } في سورة البقرة (51).

وحرف (ثم) هنا مفيد للتراخي، وذلك إلجاء إلى قبول التوبة، ولو بعد زمان طويل مملوء بفعل السيّئات.

وقوله: { من بعدها } تأكيد لمفاد المهلة التي أفادها حرف (ثم) وهذا تعريض للمشركين بأنهم إن آمنوا يغفر لهم ولو طال أمد الشرك عليهم.

وعطف الإيمان على التوبة، مع أن التوبة تشمله من حيث إن الإيمان توبة من الكفر، إما للاهتمام به، لأنه أصل الاعتداد بالأعمال الصالحة عند الله تعالى كقوله: { { وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة } [البلد: 12- 13] إلى قوله: { { ثم كان من الذين آمنوا } [البلد: 17]. ولئلا يظن أن الإشراك لخطورته لا تنجي منه التوبة.

وإما أن يراد بالإيمان إيمان خاص، وهو الإيمان بإخلاص، فيشمل عمل الواجبات.

والخطاب في قوله: { إن ربك } لمحمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأظهر، أو لموسى على جعل قوله: { إن الذين اتخذوا العجل } مقولاً من الله لموسى.

وفي تعريف المسند إليه بالإضافة توسل إلى تشريف المضاف إليه بأنه مربوب لله تعالى، وفي ذكر وصف الربوبية هنا تمهيد لوصف الرحمة.

وتأكيد الخبر بإن ولام التوكيد وصيغتي المبالغة في { غفور رحيم } لمزيد الاهتمام به ترغيب للعصاة في التوبة، وطرداً للقنوط من نفوسهم، وإن عظمت ذنوبهم، فلا يحسبوا تحديد التوبة بحد إذا تجاوزتْه الذنوب بالكثرة أو العِظَم لم تقبل منه توبة.

وضمير: { من بعدها } الثاني مبالغة في الامتنان بقبول توبتهم بعد التملّي من السيئات.

وحذف متعلق { غفور رحيم } لظهوره من السياق، والتقدير: لغفور رحيم لهم. أو لكل من عمل سيّئة وتاب منها.