التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
١٦٤
فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
١٦٥
فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
١٦٦
-الأعراف

التحرير والتنوير

جملة: { وإذ قالت أمة منهم } عطف على قوله: { إذ يعدون } [الأعراف: 163] والتقدير: واسألَ بني إسرائيل إذ قالت أمة منهم، فإذْ فيه اسم زمان للماضي وليست ظرفاً، ولها حكم { إذْ } [الأعراف: 163] أختها، المعطوفة هي عليها، فالتقدير: واسألهم عن وقت قالت أمة، أي عن زمنَ قول أمة منهم، والضمير المجرور بمن عائِد إلى ما عاد إليه ضمير { أسألهم } [الأعراف: 163] وليس عائداً إلى القرية، لأن المقصود توبيخ بني إسرائيل كلهم، فإن كان هذا القول حصل في تلك القرية كما ذكره المفسرون كان غير منظور إلى حصوله في تلك القرية، بل منظوراً إليه بأنه مظهر آخر من مظاهر عصيانهم وعتوهم وقلة جدوى الموعظة فيهم، وأن ذلك شأن معلوم منهم عند علمائهم وصلحائهم، ولذلك لما عطفت هذه القصة أعيد معها لفظ اسم الزمان فقيل: { وإذْ قالت أمة } ولم يقل: وقالت أمة.

والأمة الجماعة من الناس المشتركة في هذا القول، قال المفسرون: إن أمة من بني إسرائيل كانت دائبة على القيام بالموعظة والنهى عن المنكر، وأمة كانت قامت بذلك ثم أيست من إتعاظ الموعوظين وأيقنت أن قد حقت على الموعوظين المصمين آذانهم كلمة العذاب، وأمة كانت سادرة في غلوائها، لا ترعوي عن ضلالتها، ولا ترقب الله في أعمالها.

وقد أجملت الآية ما كان من الأمة القائلة إيجازاً في الكلام، اعتماداً على القرينة لأن قولهم: { الله مهلكهم } يدل على أنهم كانوا منكرين على الموعوظين، وإنهم ما علموا أن الله مهلكهم إلاّ بعدَ أن مارسوا أمرهم، وسبروا غورهم، ورأوا أنهم لا تغني معهم العظات، ولا يكون ذلك إلاّ بعد التقدم لهم بالموعظة، وبقرينة قوله بعد ذلك { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } إذ جعل الناس فريقين، فعلمنا أن القائلين من الفريق الناجي، لأنهم ليسوا بظالمين، وعلمنا أنهم ينهون عن السوء.

وقد تقدم ذكر الوعظ عند قوله تعالى: { { فأعرض عنهم وعظْهم } في سورة النساء (63) وعند قوله آنفاً { موعظة وتفصيلاً لكل شيء } في هذه السورة (145).

واللام في { لمَ تعظون } للتعليم، فالمستفهم عنه من نوع العلل، والاستفهام إنكاري في معنى النفي، فيدل على انتفاء جميع العلل التي من شأنها أن يوعظَ لتحصيلها، وذلك يفضي إلى اليأس من حصول إتعاظهم، والمخاطب بــــ { تعظون } أمة أخرى.

ووصف القوم بأن الله مهلكهم: مبني على أنهم تحققتْ فيهم الحال التي أخبر الله بأنه يهلك أو يعذب من تحققتْ فيه، وقد أيقن القائلون بأنها قد تحققت فيهم، وأيقن المقول لهم بذلك حتى جاز أن يصفهم القائلون للمخاطبين بهذا الوصف الكاشف لهم بأنهم موصوفون بالمصير إلى أحد الوعيدين.

واسما الفاعل في قوله: { مهلكهم أو معذبهم } مستعملان في معنى الاستقبال بقرينة المقام، وبقرينة التردد بين الإهلاك والعذاب، فإنها تؤذن بأن أحد الأمرين غير معين الحصول، لأنه مستقبل ولكن لا يخلو حالهم عن أحدهما.

وفصلت جملة { قالوا } لوقوعها في سياق المحاورة، كما تقدم غير مرة أي قال المخاطبون بِـــ { لمَ تعظون قوماً } الخ.

والمعذرة ــــ بفتح الميم وكسر الذال ــــ مصدر ميمي لفعل (اعتذر) على غير قياس، ومعنى اعتذر أظهر العذر ــــ بضم العين وسكون الذال ــــ والعذر السبب الذي تبطل به المؤاخذة بذنب أو تقصير، فهو بمنزلة الحجة التي يبديها المؤاخَذ بذنب؛ ليظهر أنه بريء مما نسب إليه، أو متأول فيه، ويقال: عذَره إذا قبل عذره وتحقق براءته، ويعدّى فعل الاعتذار بإلى لما فيه من معنى الإنهاء والإبلاغ.

وارتفع { معذرة } على أنه خبر لمبتدإ محذوف دل عليه قول السائلين { لم تعظون } والتقديرُ موعظتنا معذرة منا إلى الله.

وبالرفع قرأه الجمهور، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على المفعول لأجله أي وعظناهم لأجل المعذرة.

وقوله: { ولعلهم يتقون } علة ثانية للاستمرار على الموعظة أي رجاء لتأثير الموعظة فيهم بتكرارها.

فالمعنى: أن صلحاء القوم كانوا فريقين. فريق منهم أيِس من نجاح الموعظة وتحقق حلول الوعيد بالقوم، لتوغلهم في المعاصي، وفريق لم ينقطع رجاؤُهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار، فأنكر الفريقُ الأول على الفريق الثاني استمرارهم على كلفة الموعظة. واعتذر الفريق الثاني بقولهم: { معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } فالفريق الأول أخذوا بالطرف الراجح الموجب للظن. والفريق الثاني أخذوا بالطرف المرجوح جمعاً بينه وبين الراجح لقصد الاحتياط، ليكون لهم عذراً عند الله إن سألهم لماذا أقلعتم عن الموعظة ولما عسى أن يحصل من تقوى الموعوظين بزيادة الموعظة، فاستعمال حرف الرجاء في موقعه، لأن الرجاء يقال على جنسه بالتشكيك فمنه قوي ومنه ضعيف.

وضمير { نسوا } عائد إلى { قوماً } والنسيان مستعمل في الإعراض المفضي إلى النسيان كما تقدم عند قوله تعالى: { فلما نسوا ما ذُكروا به } في سورة الأنعام (44).

والذين ينهون عن السوء } هم الفريقان المذكوران في قوله آنفاً { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً } ــــ إلى قوله ــــ { ولعلهم يتقون }، و{ الذين ظلموا } هم القوم المذكورون في قوله: { قوماً الله مُهلكهم } إلخ.

والظلم هنا بمعنى العصيان، وهو ظلم النفس، حق الله تعالى في عدم الامتثال لأمره.

و{ بِيسٍ } قرأه نافع وأبو جعفر ــــ بكسر الباء الموحدة مشبعة بياء تحتية ساكنة وبتنوين السين ــــ على أن أصله بئْس ــــ بسكون الهمزة فخففت الهمزة ياء مثل قولهم: ذِيب في ذِئْب.

وقرأه ابن عامر { بئْس } بالهمزة الساكنة وإبقاء التنوين على أن أصله بَئيس.

وقرأه الجمهور { بَئيس } ــــ بفتح الموحدة وهمزة مكسورة بعدها تحتية ساكنة وتنوين السين ــــ على أنه مثالُ مبالغة من فعل بَؤُس ــــ بفتح الموحدة وضم الهمزة ــــ إذا أصابه البؤس، وهو الشدة من الضر. أو على أنه مصدر مثل عَذير ونَكير.

وقرأه أبو بكر عن عاصم { بَيْئسَ } بوزنَ صَيْقل، على أنه اسم للموصوف بفعل البؤس مبالغة، والمعنى، على جميع القراءات: أنه عذاب شديد الضر.

وقوله: { بما كانوا يفسقون } تقدم القول في نظيره قريباً.

وقد أجمل هذا العذاب هنا، فقيل هو عذاب غير المسخ المذكور بعده، وهو عذاب أصيب به الذين نَسوا ما ذُكروا به، فيكون المسخ عذاباً ثانياً أصيب به فريق شاهدوا العذاب الذي حل بإخوانهم، وهو عذاب أشد، وقع بعد العذاب البيس، أي أن الله أعذر إليهم فابتدأهم بعذاب الشدة، فلما لم ينتهوا وعتوا، سلّط عليهم عذاب المسخ.

وقيل: العذاب البِئس هو المسخ، فيكون قوله: { فلما عتوا عما نهوا عنه } بياناً»جمال العذاب البئس، ويكون قوله: { فلما عتوا } بمنزلة التأكيد لقوله: { فلما نسوا } صيغ بهذا الأسلوب لتهويل النسيان والعتو، ويكون المعنى: أن النسيان، وهو الإعراض، وقع مقارناً للعتو.

و{ ما ذكّروا به } و{ ما نُهوا عنه } ما صْدَقُهما شيء واحد، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: فلما نسوا وَعتوا عما نهوا عنه وذُكروا به قلنا لهم الخ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى هذا الأسلوب من الإطناب لتهويل أمر العذاب، وتكثير أشكاله، ومقام التهويل من مقتضيات الأطناب، وهذا كإعادة التشبيه في قول لبيد:

فتنازعا سبطاً يطير ظلالهكدخان مُشعَلة يشبّ ضرامها
مشمولةٍ غُلِثت بنابت عَرفجكدُخان نار ساطع أسنامها

ولكن أسلوب الآية أبلغ وأوفر فائدة، وأبعد عن التكرير اللفظي، فما في بيت لبيد كلامٌ بليغ، وما في الآية كلام معجز.

و(العتو) تقدم عند قوله تعالى: { { فعقروا الناقة وعَتوا عن أمر ربهم } في هذه السورة (77).

وقوله: { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: { { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين } في سورة البقرة (65)، ولأجل التشابه بين الآيتين، وذكر العدْوِ في السبت فيهما، وذكرِه هنا في الإخبار عن القرية، جزم المفسرون بأن الذين نسوا مَا ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه هم أهل هذه القرية، وبأن الأمة القائلة { لم تعظون قوماً } هي أمة من هذه القرية فجزموا بأن القصة واحدة، وهذا وإن كان لا ينبو عنه المقام، كما أنه لا يمنعُ تشابه فريقين في العذاب، فقد بينتُ أن ذلك لا ينافي جعل القصة في معنى قصتين من جهة الاعتبار.