التفاسير

< >
عرض

أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٦٩
-الأعراف

التحرير والتنوير

{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ }.

هذا مماثل قولَ نوح لقومه وقد تقدّم آنفاً سبب المماثلة. وتقدّم من قبل تفسير نظيره.

{ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى ٱلْخَلْقِ بَسْطَةً فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.

يجوز أن يكون قوله: { واذكروا } عطفاً على قوله: { { اعبدوا } [الأعراف: 65] ويكونَ ما بينهما اعتراضاً حكي به ما جرى بينه وبين قومه من المحاورة التي قاطعوه بها عقب قوله لهم { { اعبدوا الله } [الأعراف: 65]، فلمّا أتمّ جوابهم عمّا قاطعوا به كلامه عاد إلى دعوته، فيكون رجوعاً إلى الدّعوى، ويجوز أن يكون عطفاً على قوله: { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم } أي: لا تنكروا أن جاءكم ذكر من ربّكم واذكروا نعمته عليكم، فيكون تكملة للاستدلال، وإيّاً مّا كان فالمآل واحد، وانتقل من أمرهم بالتّوحيد إلى تذكيرهم بنعمة الله عليهم التي لا ينكرون أنّها من نعم الله دون غيره، لأنّ الخلق والأمر لله لا لغيره. تذكيراً من شأنه إيصالهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة. وإنّما أمرهم بالذّكر (بضمّ الذّال) لأنّ النّفس تنسى النّعم فتكفر المنعم، فإذا تذكّرت النّعمة رأتْ حقاً عليها أن تشكر المُنعم، ولذلك كانت مسألة شكر المنعم من أهمّ مسائل التّكليف، والاكتفاء بحسنه عقلاً عند المتّكلمين سواء منهم من اكتفى بالحس العقلي ومن لم يكتف به واعتَبر التوقّفَ على الخطاب الشّرعي.

و{ إذْ } اسم زمان منصوب على المفعول به، وليس ظرفاً لعدم استقامة المعنى على الظرفية، والتّحقيق أن (إذْ) لا تلازم الظرفية بل هي ظرف متصرّف، وهو مختار صاحب «الكشاف»، والمعنى: اذكروا الوقت الذي ظهرت فيه خلافتكم عن قوم نوح في تعمير الأرض والهيمنة على الأمم، فإنّ عادا كانوا ذوي قوّة ونعمة عظيمة { وقالوا من أشَدّ منّا قوّة } [فصلت: 15].

فالخلفاء جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء، أي يتولى عمل ما كان يعمله الآخَر، وقد تقدّم عند قوله تعالى: { { إنّي جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة (30)، فالمراد: جعلكم خلفاء في تعمير الأرض، ولما قال: من بعد قوم نوح } عُلم أنّ المقصود أنّهم خلفاء قوم نوح، فعادٌ أوّل أمّة اضطلعت بالحضارة بعد الطّوفان، وكان بنو نوح قد تكاثروا وانتشروا في الأرض، في أرمينية والموصل والعراق وبلاد العرب، وكانوا أمماً كثيرة، أو كانت عاد عظم تلك الأمم وأصحاب السّيادة على سائر الأمم، وليس المراد أنّهم خلفوا قوم نوح في ديارهم لأنّ منازل عاد غيرُ منازل قوم نوح عند المُؤرّخين، وهذا التّذكير تصريح بالنّعمة، وتعريض بالنّذارة والوعيدِ بأنّ قوم نوح إنّما استأصلهم وأبَادَهم عذابٌ من الله على شركهم، فمن اتبعهم في صنعهم يوشك أن يحلّ به عذاب أيضاً.

و{ الخلق } يحتمل أن يكون مصدراً خالصاً، ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول، وهو يستعمل في المعنيين.

وقوله: { بصطة } ثبت في المصاحف بصاد قبل الطاء وهو مرادف بسطة الذي هو ــــ بسين ــــ قبل الطاء. ووقع في آيات أخرى. وأهمل الراغب (بصطة) الذي بالصاد. وظاهر عبارة القرطبي أنه في هذه الآية ــــ بسين ــــ وليس كذلك.

والبصطة: الوفرة والسعة في أمر من الآمور.

فإن كان (الخلق) بمعنى المصدر فالبصطة الزّيادة في القُوى الجِبلية أي زادهم قوّة في عقولهم وأجسامهم فخلقهم عقلاء أصحاء، وقد اشتهر عند العرب نسبة العقول الرّاجحة إلى عاد، ونسبة كمال قوى الأجسام إليهم قال النّابغة:

أحلامُ عاد وأجسام مطهَّرةمن المعقة والآفات والإثِم

وقال وَدّاك بنُ ثُمَيْل المازتي في «الحماسة»:

وأحلام عادٍ لا يخاف جليسهمولو نَطَقَ العُوّار غَرْبَ لِسان

وقال قيس بن عُبادة:

وأنْ لا يَقولوا غاب قيس وهذهسراويل عادّي نمته ثَمُود

وعلى هذه الوجه يكون قوله: { في الخلق } متعلّقاً بــــ { بصطة }، وإن كان الخلق بمعنى النّاس فالمعنى: وزادكم بصطة في النّاس بأن جعلكم أفضل منهم فيما تتفاضل به الأمم من الأمور كلّها، فيشمل رجحان العقول وقوّة الأجسام وسلامتها من العاهات والآفات وقوّة البأس، وقَد نُسبت الدّروع إلى عاد فيقال لها: العاديّة، وكذلك السّيوف العاديّة، وقد قال الله تعالى حكاية عنهم: { وقالوا مَن أشد منّا قوّة } [فصلت: 15] وحكَى عن هود أنّه قال لهم: { وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبّارين فاتّقوا الله وأطيعون واتّقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمَدّكم بأنعام وبنين وجنّاتٍ وعيون } [الشعراء: 129 ـــ 134] وعلى هذا الوجه يكون قوله: { في الخلق } ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير المخاطبين.

والفاء في قوله: { فاذكروا آلاء الله } فصيحة، أي: إن ذكرتم وقت جَعَلَكَم اللَّهُ خلفاء في الأرض ووقتَ زادكم بصطة فاذكروا نعمه الكثيرة تفصيلاً، فالكلام جاء على طريقه القيَاس من الاستدلال بالجزئي على إثبات حكم كلي، فإنّه ذكرهم بنعمة واضحة وهي كونهم خلفاءَ ونِعَممٍ مُجملة وهي زيادة بصطتهم، ثمّ ذكَّرهم بقية النّعم بلفظ العموم وهو الجمع المضاف.

والآلاء جمع (إلى)، والإلَى: النّعمة، وهذا مثل جمع عِنَب على أعْنَاب، ونظيره جمع إنى بالنّون، وهو الوقت، على آناء قال تعالى: { { غير ناظرين إناهُ } [الأحزاب: 53] أي وقته، وقال { ومن آناء اللّيل فسبِّح } [طه: 130].

ورتب على ذكر نعم الله رجاء أن يفلحوا لأنّ ذكر النّعم يؤدّي إلى تكرير شكر المنعم، فيحمِل المنعم عليه على مقابلة النّعم بالطّاعة.