التفاسير

< >
عرض

وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ
٦٢
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٦٣
-الأنفال

التحرير والتنوير

لمّا كان طلب السلم والهدنة من العدوّ قد يكون خديعة حربية، ليَغرُّوا المسلمين بالمصالحة ثمّ يأخذوهم على غرّة، أيقظ الله رسوله لهذا الاحتمال فأمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم، ويحملهم على الصدق، لأنّه الخُلق الإسلامي، وشأن أهل المُروءة، ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد، فإذا بعث العدوَّ كفرُهم على ارتكاب مثل هذا التسفّل، فإنّ الله تكفّل، للوفي بعهده، أن يقيه شرّ خيانة الخائنِين. وهذا الأصل، وهو أخذ الناس بظواهرهم، شعبة من شعب دين الإسلام قال تعالى: { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إن الله يحب المتقين } [التوبة: 4] وفي الحديث: آية المنافق ثلاث، منها: وإذا وعد أخلف. ومن أحكام الجهاد عن المسلمين أن لا يخفر للعدوّ بعهد.

والمعنى: إنْ كانوا يريدون من إظهار ميلهم إلى المسالمة خديعةً فإنّ الله كافيك شرّهم. وليس هذا هو مقام نبذ العهد الذي في قوله: { وإما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } [الأنفال: 58] فإنّ ذلك مقام ظهور أمارات الخيانة من العدوّ، وهذا مقام إضمارهم الغدر دون أمارة على ما أضمروه.

فجملة: { فإن حسبك الله } دلّت على تكفّل كفايته، وقد أريد منه أيضاً الكناية عن عدم معاملتهم بهذا الاحتمال، وأن لا يتوجّس منه خيفة، وأنّ ذلك لا يضرّه.

والخديعة تقدّمت في قوله تعالى: { يخادعون الله } من سورة [البقرة: 9].

وحسب معناه كاف وهو صفة مشبّهة بمعنى اسم الفاعل، أي حاسبك، أي كافيك وقد تقدّم قوله تعالى: { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } في سورة [آل عمران: 173].

وتأكيد الخبر ب(إنْ) مراعى فيه تأكيد معناه الكنائي، لأنّ معناه الصريح ممّا لا يشكّ فيه أحد.

وجَعْل { حسبك } مسنداً إليه، مع أنّه وصف، وشأن الإسناد أن يكون للذات، باعتبار أنّ الذي يخطر بالبال باديء ذي بدء هو طلب من يكفيه.

وجملة { هو الذي أيدك بنصره } مستأنفة مسوقة مساق الاستدلال: على أنّه حَسبه، وعلى المعنى التعريضي وهو عدم التحَرّج من احتمال قصدهم الخيانة والتوجّس من ذلك الاحتمال خيفة، والمعنى: فإنّ الله قد نصرك من قبل وقد كنت يومئذ أضعف منك اليوم، فنصَرك على العدوّ وهو مجاهر بعدْوَانِه، فنصرُه إيَّاك عليهم مع مخاتلتهم، ومع كونك في قوّة من المؤمنين الذين معك، أولى وأقرب.

وتعدية فعل { يخدعوك } إلى ضمير النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار كونه وليّ أمر المسلمين، والمقصود: وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله، وقد بُدّل الأسلوب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ليتوصّل بذلك إلى ذكر نصره من أول يوم حين دعا إلى الله وهو وحده مخالفاً أمّة كاملة.

والتأييد التقوية بالإعانة على عمل. وتقدّم في قوله: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس } في سورة [البقرة: 87].

وجعلت التقوية بالنصر: لأنّ النصر يقوي العزيمة، ويثبت رأي المنصور، وضدّه يشوش العقل، ويوهن العزم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض خطبه وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان حتّى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا معرفة له بالحرب.

وإضافة النصر إلى الله: تنبيه على أنّه نصر خارق للعادة، وهو النصر بالملائكة والخوارق، من أوّل أيّام الدعوة.

وقوله: { وبالمؤمنين } عطف على { بنصره } وأعيد حرف الجرّ بعد واو العطف لدفع توهّم أن يكون معطوفاً على اسم الجلالة فيوهم أنّ المعنى ونصر المؤمنين مع أنّ المقصود أنّ وجود المؤمنين تأييد من الله لرسوله إذ وفّقهم لاتّباعه فشرح صدره بمشاهدة نجاح دعوته وتزايد أمته ولكون المؤمنين جيشاً ثابتي الجنان، فجعل المؤمنون بذاتهم تأييداً.

والتأليف بين قلوب المؤمنين مِنّة أخرى على الرسول، إذ جعَل أتباعه متحابّين وذلك أعون له على سياستهم، وأرجى لاجتناء النفع بهم، إذ يكونون على قلب رجل واحد، وقد كان العرب يفضلون الجيش المؤلف من قبيلة واحدة، لأنّ ذلك أبعد عن حصول التنازع بينهم.

وهو أيضاً منة على المؤمنين إذ نزع من قلوبهم الأحقاد والإحن، التي كانت دأب الناس في الجاهلية، فكانت سبب التقاتل بين القبائل، بعضها مع بعض، وبين بطون القبيلة الواحدة. وأقوالهم في ذلك كثيرة. ومنها قول الفضل بن العبّاس اللهَبي:

مَهْلاً بني عمّنا مهلاً موالينالا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
اللَّه يعلم أنّا لا نحبكموولا نلومكمو أنْ لا تحبونا

فلمّا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم انقلبت البغضاء بينهم مودّة، كما قال تعالى: { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } [آل عمران: 103]، وما كان ذلك التآلف والتحابّ إلاّ بتقدير الله تعالى فإنّه لم يحصل من قبل بوشائِج الأنساب، ولا بدعوات ذوي الألباب.

ولذلك استأنف بعدَ قوله: { وألف بين قلوبهم } قوله: { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } استئنافا ناشئاً عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف، فهو بياني، أي: لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم.

فقوله: { ما في الأرض جميعاً } مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف (لو) الدالّ على عدم الوقوع. وأمّا ترتّب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه، فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين، لما نظّم الله من ألفتهم، وأماط عنهم من التباغض. ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام ممّا نشأت عنه حرب بُعاث بينهم، ثم أصبحوا بعد حين إخواناً أنصاراً لله تعالى، وأزال الله من قلوبهم البغضاءِ بينهم.

و{ جميعاً } منصوباً على الحال من { ما في الأرض } وهو اسم على وزن فعيل بمعنى مجتمع، وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون } في سورة [هود: 55].

وموقع الاستدراك في قوله: { ولكن الله ألّف بينهم } لأجل ما يتوهّم من تعذّر التأليف بينهم في قوله: { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم } أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر.

والخطاب في { أنفقت } و{ ألَّفت } للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنّه أول من دعا إلى الله. وإذْ كان هذا التكوين صنعاً عجيباً ذَيّل الله الخبر عنه بقوله: { إنه عزيز حكيم } أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء، محكم التكوين فهو يكوّن المتعذر، ويجعله كالأمر المسنون المألوف.

والتأكيد بـ«إنَّ» لمجرّد الاهتمام بالخبر باعتبار جعله دليلاً على بديع صنع الله تعالى.