التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
٦٥
-الأنفال

التحرير والتنوير

أعيد نداء النبي صلى الله عليه وسلم للتنويه بشأن الكلام الوارد بعد النداء وهذا الكلام في معنى المقصد بالنسبة للجملة التي قبله، لأنّه لما تكفّل الله له الكفاية، وعطف المؤمنين في إسناد الكفاية إليهم، احتيج إلى بيان كيفية كفايتهم، وتلك هي الكفاية بالذبّ عن الحوزة وقتال أعداء الله، فالتعريف في { القتال } للعهد، وهو القتال الذي يعرفونه، أعني: قتال أعداء الدين.

والتحريض: المبالغةُ في الطلب.

ولمّا كان عموم الجنس الذي دل عليه تعريف القتال يقتضي عموم الأحوال باعتبار المقاتَلين ـ بفتح التاء ـ وكان في ذلك إجمال من الأحوال، وقد يكون العدو كثيرين ويكون المؤمنون أقلّ منهم، بيّن هذا الإجمال بقوله: { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } الآية.

وضمير { منكم } خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.

وفصلت جملة { إن يكن منكم عشرون صابرون } لأنها لمّا جعلت بياناً لإجمال كانت مستأنفة استئنافاً بيانيا، لأن الإجمال من شأنه أن يثير سؤال سائل عمّا يعمل إذا كان عدد العدوّ كثيراً، فقد صار المعنى: حرض المؤمنين على القتال بهذه الكيفية.

و{ صابرون } ثابتون في القتال، لأنّ الثبات على الالآم صبر، لأنّ أصل الصبر تحمّل المشاقّ، والثباتُ منه، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } وفي الحديث: "لا تتمنّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية فإذا لاقيتم فاصبروا" . وقال النابغة:

تجنب بَني حُنَ فإنّ لقاءهمكَريه وإن لم تَلق إلاّ بصابر

وقال زفر بن الحارث: الكلابي

سقيناهم كأساً سقونا بمثلهاولكنّهم كانوا على الموت أصبرا

والمعنى: عُرفوا بالصبر والمقدرة عليه، وذلك باستيفاء ما يقتضيه من أحوال الجسد وأحوال النفس، وفيه إيماء إلى توخّي انتقاء الجيش، فيكون قيداً للتحريض، أي: حرّض المؤمنين الصابرين الذين لا يتزلزلون، فالمقصود أن لا يكون فيهم من هو ضعيف النفس فيفشل الجيش، كقول طالوت { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } [البقرة: 249].

وذُكر في جانب جيش المسلمين في المرّتين عدد العشرين وعددُ المائة، وفي جانب جيش المشركين عددُ المائتين وعدد الألف، إيماءً إلى قلّة جيش المسلمين في ذاته، مع الإيماء إلى أنّ ثباتهم لا يختلف باختلاف حالة عددهم في أنفسهم، فإنّ العادة أنّ زيادة عددُ الجيش تقوي نفوس أهله، ولو مع كون نسبة عددهم من عدد عدوّهم غير مختلفة، فجعل الله الإيمان قوّةً لنفوس المسلمين تدفع عنهم وهَن استشعار قلّة عدد جيشهم في ذاته.

أمّا اختيار لفظ العشرين للتعبير عن مرتبة العشرات دون لفظ العشرة: فلعل وجهه أنّ لفظ العشرين أسعد بتقابل السكنات في أواخر الكلم لأنّ للفظِه مائتين من المناسبة بسكنات كلمات الفواصل من السورة، ولذلك ذكر المائة مع الألف، لأنّ بعدها ذِكرَ مميز العدد بألفاظ تناسب سكنات الفاصلة، وهو قوله: { لا يفقهون } فتعيّن هذا اللفظ قضاء لحقّ الفصاحة.

فهذا الخبر كفالة للمسلمين بنصر العدد منهم على عشرة أمثاله، من عددهم وهو يستلزم وجوب ثبات العدد منهم، لِعشرة أمثاله، وبذلك يفيد إطلاق الأمر بالثبات للعدوّ الواقع في قوله: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } [الأنفال: 45]، وإطلاق النهي عن الفرار الواقع في قوله: { فلا تولوهم الأدبار } [الأنفال: 15] الآية كما تقدّم. وهو من هذه الناحية التشريعية حكم شديد شاقّ اقتضته قلّة عدد المسلمين يومئذ وكثرة عدد المشركين، ولم يصل إلينا أنّ المسلمين احتاجوا إلى العمل به في بعض غزواتهم، وقصارى ما علمنا أنّهم ثبتوا لثلاثة أمثالهم في وقعة بدر، فقد كان المسلمون زهاء ثلاثمائة وكان المشركون زهاء الألف، ثمَّ نزل التخفيف من بعد ذلك بالآية التّالية.

والتعريف بالموصول في { الذين كفروا } للإيماء إلى وجه بناء الخير الآتي: وهو سلب الفقاهة عنهم.

والباء في قوله: { بأنهم } للسببية. أي بعدم فقههم. وإجراء نفي الفقاهة صفة لـ{ قوم } دون أن يجعل خبراً فيقال: ذلك بأنّهم لا يفقهون، لقصد إفادة أنّ عدم الفقاهة صفة ثابتة لهم بما هم قوم، لئلاّ يتوهّم أنّ نفي الفقاهة عنهم في خصوص هذا الشأن، وهو شأن الحرب المتحدّث عنه، للفرق بين قولك: حدّثت فلاناً حديثاً فوجدته لا يفقه، وبين قولك: فوجدته رجلاً لا يفقه.

والفقه فهم الأمور الخفية، والمراد نفي الفقه عنهم من جانب معرفة الله تعالى بقرينة تعليق الحكم بهم بعد إجراء صلة الكفر عليهم.

وإنّما جعَل الله الكفر سبباً في انتفاء الفقاهة عنهم: لأنّ الكفر من شأنه إنكار ما ليس بمحسوس فصاحبه ينشأ على إهمال النظر، وعلى تعطيل حركات فكره، فهم لا يؤمنون إلاّ بالأسباب الظاهرية، فيحسبون أنّ كثرتهم توجب لهم النصر على الأقلّين لقولهم: «إنما الغرة للكاثر»، ولأنّهم لا يؤمنون بما بَعد الموت من نعيم وعذاب، فهم يخشون الموت فإذا قاتلوا ما يقاتلون إلاّ في الحالة التي يكون نصرهم فيها أرجح، والمؤمنون يعوّلون على نصر الله، ويثبتون للعدوّ رجاء إعلاء كلمة الله، ولا يهابون الموت في سبيل الله، لأنّهم موقنون بالحياة الأبدية المسِرّة بعد الموت.

وقرأ الجمهور "إن تكن" ـ بالتاء المثناة الفوقية ـ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، وذلك الأصل، لمراعاة تأنيث لفظ مائة. وقرأها الباقون بالمثنّاة التحتية، لأنّ التأنيث غير حقيقي، فيجوز في فعله الاقتران بتاء التأنيث وعدمه، لا سيما وقد وقع الفصل بين فعله وبينه. والفصل مسوّغ لإجراء الفعل على صيغة التذكير.