التفاسير

< >
عرض

وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٧١
-الأنفال

التحرير والتنوير

الضمير في { يريدوا } عائِد إلى من في أيديكم من الأسرى. وهذا كلام خاطب به اللَّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم اطمئناناً لنفسه، وليبلغ مضمونَه إلى الأسرى، ليعلموا أنّهم لا يغلِبون الله ورسوله. وفيه تقرير للمنّة على المسلمين التي أفادها قوله: { فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً } [الأنفال: 69]، فكمل ذلك الإذنُ والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم، إنْ خانهم الأسرى بعدَ رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال، بأنّ الله يمكّن المسلمين منهم مرةً أخرى، كما أمكنهم منهم في هذه المرة، أي: أن يَنووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتَك، وإنّما وعدوا بذلك لينجَوا من القتل والرقّ، فلا يضرّكم ذلك، لأنّ الله ينصركم عليهم ثانيَ مرة. والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة.

فالعَهد، الذي أعطَوْه، هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين. وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه.

وخيانتهم الله، التي ذُكرت في الآية، يجوز أن يراد بها الشرك فإنّه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله: { وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم } [الأعراف: 172] الآية فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة، وما من نفس إلاّ وهي تشعر به، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدّم.

وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله: { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما } [الأعراف: 189، 190].

ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببيّنة، فلمّا تحدّاهم بالقرآن كفروا به وكابروا.

وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله: { فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم }. وتقديره: فلا تضرّك خيانتهم، أو لا تهتمّ بها، فإنّهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل.

قوله: { فأمكن منهم } سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب، وبيان اشتقاقه، وألَمَّ به بعضهم إلماماً خفيفاً؛ بأن فسروا (أمكنَ) بأقدَرَ، فهل هو مشتقّ من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر. ووقع في «الأساس» «أمكنني الأمرُ معناه أمكنني من نفسه» وفي «المصباح» «مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة».

والذي أفهَمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتقّ من المكان وأنّ الهمزة فيه للجعل، وأن معنى أمكنه من كذا جعل له منه مكاناً أي مقراً، وأنّ المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مَجالاً للكائن فيه.

و«من» التي يتعدّى بها فعل أمكن اتّصالية مثل التي في قولهم: لستُ منك ولستَ منّي. فقوله تعالى: { فأمكن منهم } حذف مفعوله لدلالة السياق عليه، أي أمكنك منهم يوم بدر، أي لم ينفلتوا منك.

والمعنى: أنّه أتاكم بهم إلى بدر على غير ترقّب منكم فسلّطكم عليهم.

{ والله عليم حكيم } تذييل، أي عليم بما في قلوبهم حكيم في معاملتهم على حسب ما يعلم منهم.