التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٠٠
-التوبة

التحرير والتنوير

عُقِّب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذِي مُتطلب الصلاح حذوَهم، ولئلا يخلوَ تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحَواليها وبَواديها، عن ذكر أفضل الأقسام تنويهاً به. وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها.

فالجملة عطف على جملة: { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } [التوبة: 98].

والمقصود بالسبق السبق في الإيمان، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين، والكفار الصرحاء، والكفار المنافقين؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجِر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية.

وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معاً، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة: من صلى القبلتين. وقال عطاء: من شهد بدراً. وقال الشعبي: من أدركوا بيعة الرضوان. وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله: { والأنصار } للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين، وهذا يخص المهاجرين. وفي «أحكام ابن العربي» ما يشبه أنَّ رأيه أن السابقين أصحاب العقبتين، وذلك يخص الأنصار. وعن الجبائي: أن السابقين مَن أسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل.

واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة، أي بفتح مكة، وهذا يَقصر وصفَ السبق على المهاجرين. ولا يلاقي قراءة الجمهور بخفض { الأنصار }. و{ من } للتبعيض لا للبيان.

والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر. والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوْس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان. دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشأوا في الإسلام كولد ابن صياد.

وقرأ الجمهور { والأنصار } بالخفض عطفاً على المهاجرين، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار. وقرأ يعقوب { والأنصارُ } بالرفع، فيكون عطفاً على وصف { السابقون } ويكون المقسَّم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين.

والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم في الإيمان، أي آمنوا بعد السابقين: ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة.

والإحسان: هو العمل الصالح. والباء للملابسة. وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص، فهم محسنون، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازاً بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد، مثل المؤلفة قلوبهم، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [الأحزاب: 60] فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات.

وجملة: { رضي الله عنهم } خبر عن { السابقون }. وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد. ورضَى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءَهم، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم.

والإعداد: التهيئة. وفيه إشعار بالعناية والكرامة. وتقدم القول في معنى جري الأنهار.

وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها (مِنْ) مع (تَحتِها) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف (من) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل (أعد) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه.

وثبتت (مِن) في مصحف مَكة، وهي قراءة ابن كثير المكي، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين.