التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
١٢٤
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ
١٢٥
-التوبة

التحرير والتنوير

عطف على قوله: { وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطَّول منهم } [التوبة: 86] وهذا عود إلى بيان أحوال المنافقين وما بينهما اعتراضات.

وهذه الآية زيدت فيها (ما) عَقب (إذا) وزيادتها للتأكيد، أي لتأكيد معنى (إذَا) وهو الشرط، لأن هذا الخبر لغرابته كان خليقاً بالتأكيد، ولأن المنافقين ينكرون صدوره منهم بخلاف الآية السابقة لأن مضمونها حكاية استيذانهم وهم لا ينكرونه.

ولم يذكر في هذه الآية إجمال ما اشتملت عليه السور التي أنزلت كما ذكر في قوله: { وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله } [التوبة: 86]. ووجه ذلك أن سور القرآن كلها لا تخلو عن دعاء إلى الإيمان والصالحات والإعجاز ببلاغتها. فالمراد إذا أنزلت سورة مَّا من القرآن. وضمير { فمنهم } عائد إلى المنافقين للعلم بالمعاد من المقام ومن أواخر الكلام في قوله: { وأما الذين في قلوبهم مرض }، ولما في قوله قبل هذا: { { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } [التوبة: 123] من التعريض بالمنافقين كما تقدم، فالمنافقون خاطرون بذهن السامع فيكون الإتيان بضمير يعود عليهم تقوية لذلك التعريض.

وقولهم: { أيكم زادته هذه إيماناً } خطاب بعضهم لبعض على سبيل التهكم بالمؤمنين وبالقرآن، لأن بعض آيات القرآن مصرحة بأن القرآن يزيد المؤمنين إيماناً قال تعالى: { { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } [الأنفال: 2]. ولعل المسلمين كانوا إذا سمعوا القرآن قالوا: قد ازددنا إيماناً، كقول معاذ بن جبل للأسود بن هلال: اجلس بنا نُؤمن ساعة، يعني بمذاكرة القرآن وأمور الدين (رواه البخاري في كتاب الإيمان).

ولما كان الاستفهام في قولهم: { أيّكم } للاستهزاء كان متضمناً معنى إنكار أن يكون نزول سور القرآن يزيد سامعيها إيماناً توهماً منهم بأن ما لا يزيدهم إيماناً لا يزيد غيرهم إيماناً، يقيسون على أحوال قلوبهم.

والفاء في قوله: { فأما الذين آمنوا } للتفريع على حكاية استفهامهم بحملهِ على ظاهر حاله وصرفه عن مقصدهم منه. وتلك طريقة الأسلوب الحكيم، وهو: تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده لنكتة، وهي هنا إبطال ما قصدوه من نفي أن تكون السورة تزيد أحداً إيماناً قياساً على أحوال قلوبهم فأجيب استفهامهم بهذا التفصيل المتفرع عليه، فأثبت أن للسورة زيادة في إيمان بعض الناس وأكثرَ من الزيادة، وهو حصول البشر لهم.

وارتُقِيَ في الجواب عن مقصدهم من الإنكار بأن السورة ليست منفياً عنها زيادة في إيمان بعض الناس فقط بل الأمر أشد إذ هي زائدة في كفرهم، فالقِسم الأول المؤمنون زادتهم إيماناً وأكسبتهم بشرى فحصل من السورة لهم نفعان عظيمان، والقسم الثاني الذين في قلوبهم مرض زادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. فالوجه أن تكون جملة { وهم يستبشرون } معطوفة على جملة: { فزادتهم إيماناً } وأن تكون جملة: { وماتوا وهم كافرون } معطوفة على جملة: { فزادتهم رجساً } لأن مضمون كلتا الجملتين مما أثرته السورة. أما جملة: { وهم كافرون } فهي حال من ضمير { ماتوا }.

وقوبل قوله: { وهم يستبشرون } في جانب المؤمنين بقوله: { وماتوا وهم كافرون } في جانب المنافقين تحسيناً بالازدواج، بحيث كانت للسورة فائدتان للمؤمنين ومصيبتان على المنافقين، فجُعل موتهم على الكفر المتسبب على زيادة السورة في كفرهم بمنزلة مصيبة أخرى غير الأولى وإن كانت في الحقيقة زيادة في المصيبة الأولى.

هذا وجه نظم الآية على هذا النسج من البلاغة والبديع، وقد أغفل فيما رأيت من التفاسير، فمنها ما سكت عن بيانه. ومنها ما نُشرت فيه معاني المفردات وترك جانب نظم الكلام.

والاستبشار: أثر البشرى في النفس، فالسين والتاء للتأكيد مثل استعجم، وتقدم في قوله تعالى: { يستبشرون بنعمة من الله } في آل عمران (171)، وتقدم آنفاً في قوله: { { فاستبشروا ببيعكم } [التوبة: 111].

والمراد بزيادة الإيمان وبزيادة الرجس الرسوخ والتمكن من النفس.

والرجس: هنا الكفر. وأصله الشيء الخبيث. كما تقدم عند قوله تعالى: { رجس من عمل الشيطان } في سورة العقود (90). وقوله: { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } في سورة الأنعام (125).

والمرض في القلوب تقدم في قوله تعالى: { { في قلوبهم مرض } في سورة البقرة (10).

وتعدية { زادتهم } بــ { إلى } لأن زاد قد ضمن معنى الضم.

ومعنى قوله: { فأما الذين آمنوا } الخ مثل معنى قوله تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [الإسراء: 82].