التفاسير

< >
عرض

أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ
١٣
-التوبة

التحرير والتنوير

تحذير من التواني في قتالهم عدا ما استثني منهم بعد الأمر بقتلهم، وأسرهم، وحصارهم، وسدّ مسالك النجدة في وجوههم، بقوله: { { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [التوبة: 5] إلى قوله { { كل مرصد } [التوبة: 5]. وبعد أن أثبتت لهم ثمانية خلال تغري بعدم الهوادة في قتالهم، وهي قوله: { كيف يكون للمشركين عهد } [التوبة: 7] وقوله: { { كيف وإن يظهروا عليكم } [التوبة: 8] وقولُه { يُرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم } [التوبة: 8] وقولُه: { { وأكثرهم فاسقون } [التوبة: 8] وقولُه: { { اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً } [التوبة: 9] وقولُه: { { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } [التوبة: 10] وقولُه: { { وأولئك هم المعتدون } [التوبة: 10] وقولُه: { إنهم لا أيمان لهم } [التوبة: 12].

فكانت جملة { ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم } تحذيراً من التراخي في مبادرتهم بالقتال.

ولفظ { ألا } يحتمل أن يكون مجموع حرفين: هما همزة الاستفهام، و(لا) النافيةُ، ويحتمل أن يكون حرفاً واحداً للتحْضيض، مثل قوله تعالى: { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } [النور: 22]. فعلى الاحتمال الأول يجوز أن يكون الاستفهام إنكارياً، على انتفاء مقاتلة المشركين في المستقبل، وهو ما ذهب إليه البيضاوي، فيكون دفعاً لأن يَتوهَّم المسلمون حُرمة لتلك العهود. ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرياً، وهو ظاهر ما حمله عليه صاحب «الكشّاف»، تقريراً على النفي تنزيلاً لهم منزلة من ترك القتال فاستوجب طلب إقراره بتركه، قال في «الكشاف»: ومعناه الحضّ على القتال على سبيل المبالغة، وفي «مغني اللبيب» أن { ألا } التي للاستفهام عن النفي تختصّ بالدخول على الجملة الاسمية، وسلّمه شارحاه، ولا يخفى أنّ كلام الكشاف ينادي على خلافه.

وعلى الاحتمال الثاني أن يكون { ألا } حرفاً واحداً للتحْضيض فهو تحْضيض على القتال. وجَعَل في «المغني» هذه الآية مثالاً لهذا الاستعمال على طريقة المبالغة في التحذير ولعلّ موجب هذا التفنّن في التحذير من التهاون بقتالهم مع بيان استحقاقهم إياه: أن كثيراً من المسلمين كانوا قد فرحوا بالنصر يوم فتح مكة ومالوا إلى اجتناء ثمرة السلم، بالإقبال على إصلاح أحوالهم وأموالهم، فلذلك لمّا أمروا بقتال هؤلاء المشركين كانوا مظنّة التثاقل عنه خشية الهزيمة، بعد أن فازوا بسُمعة النصر، وفي قوله عقبه { أتخشونهم } ما يزيد هذا وضوحاً.

أمّا نكثهم أيمانهم فظاهر مما تقدّم عند قوله تعالى: { إلا الذين عاهدتم من المشركين } [التوبة: 4] ــــ وقوله ــــ { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم } [التوبة: 4] الآية. وذلك نكثهم عهد الحديبية إذ أعانوا بني بكر على خزاعة وكانت خزاعة من جانب عهد المسلمين كما تقدّم.

وأمّا همّهم بإخراج الرسول فظاهره أنّه همٌّ حصل مع نكث أيمانهم وأن المراد إخراج الرسول من المدينة، أي نفيه عنها لأن إخراجه من مكّة أمر قد مضى منذ سنين، ولأنّ إلجاءه إلى القتال لا يعرف إطلاق الإخراج عليه فالظاهر أنّ همّهم هذا أضمروه في أنفسهم وعلمه الله تعالى ونبّه المسلمين إليه. وهو أنّهم لمّا نكثوا العهد طمعوا في إعادة القتال وتوهّموا أنفسهم منصورين وأنّهم إن انتصروا أخرجوا الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ من المدينة.

و(الهم) هو العزم على فعل شيء، سواء فعله أم انصرف عنه. ومؤاخذتهم في هذه الآية على مجرّد الهمّ بإخراج الرسول تدلّ على أنّهم لم يخرجوه، وإلاّ لكان الأجدر أن ينعى عليهم الإخراج لا الهمّ به، كما في قوله: { { إذ أخرجه الذين كفروا } [التوبة: 40] وتدلّ على أنّهم لم يرجعوا عمّا همّوا به إلاّ لِمَا حيل بينهم وبين تنفيذه، فعن الحسن: همّوا بإخراج الرسول من المدينة حين غزوْه في أحد وحين غزوا غزوة الأحزاب، أي فكفاه الله سوء ما همّوا به، ولا يجوز أن يكون المراد إخراجه من مكة للهجرة لأنّ ذلك قد حدث قبل انعقاد العهد بينهم وبين المسلمين في الحديبية، فالوجه عندي: أنّ المعنيَّ بالذين هَمّوا بإخراج الرسول قبائل كانوا معاهدين للمسلمين، فنكثوا العهد سنة ثمان، يوم فتح مكة، وهمّوا بنجدة أهل مكة يوم الفتح، والغدر بالنَّبي ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ والمسلمين، وأن يأتوهم وهم غارون، فيكونوا هم وقريش ألباً واحداً على المسلمين، فيُخرجون الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة، ولكنّ الله صرفهم عن ذلك بعد أن همّوا، وفضح دخيلتهم للنبيء صلى الله عليه وسلم وأمره بقتالهم ونبذِ عهدهم في سنة تسع، ولا ندري أقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أم كان إعلان الأمر بقتالهم (وهم يعلمون أنهم المراد بهذا الأمر) سبباً في إسلامهم وتوبة الله عليهم، تحقيقاً للرجاء الذي في قوله: { { لعلهم ينتهون } [التوبة: 12] ولعل بعض هؤلاء كانوا قد أعلنوا الحرب على المسلمين يوم الفتح ناكثين العهد، وأمدّوا قريشاً بالعدد، فلمّا لم تنشب حرب بين المسلمين والمشركين يومئذٍ أيسوا من نصرتهم فرجعوا إلى ديارهم، وأغضى النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يؤاخذهم بغدْرهم، وبقي على مراعاة ذلك العهد، فاستمرّ إلى وقت نزول هذه الآية، وذلك قوله: { وهم بدءوكم أول مرة } أي كانوا البادئين بالنكث، وذلك أنّ قريشاً انتصروا لأحلافهم من كنانة، فقاتلوا خزاعة أحلاف المسلمين.

و{ أول مرة } نَصْب على المصدرية. وإضافة { أول } إلى { مرة } من إضافة الصفة إلى الموصوف. والتقدير: مرة أولى والمرّة الوَحدة من حدث يحدث، فمعنى { بدءوكم أول مرة } بدأوكم أوّل بدء بالنكث، أي بَدْءا أولَ؛ فالمَرّة اسم مبهم للوحدة من فعل ما، والأغلب أن يفسر إبهامه بالمقام، كما هنا، وقد يفسّره اللفظ.

و{ أوّل } اسم تفضيل جاء بصيغة التذكير، وإن كان موصوفه مؤنّثاً لفظاً، لأن اسم التفضيل إذا أضيف إلى نكرة يلازم الإفراد والتذكير بدلالة المضاف إليه ويقال: ثاني مرة وثالث مرّة.

والمقصود من هذا الكلام تهديدهم على النكث الذي أضمروه، وأنّه لا تسامح فيه. وعلى كلّ فالمقصود من إخراج الرسول عليه الصلاة والسلام: إمّا إخراجه من مكة منهزماً بعدَ أن دخلها ظافراً، وإمّا إخراجه من المدينة بعد أن رجع إليها عقب الفتح، بأن يكونوا قد همّوا بغزو المدينة وإخراج الرسول والمسلمين منها وتشتيت جامعة الإسلام.

وجملة { أتخشونهم } بدل اشتمال من جملة { ألا تقاتلون } فالاستفهام فيها إنكار أو تقرير على سبب التردّد في قتالهم، فالتقدير: أينتفي قتالكم إيّاهم لَخشيكم إياهم، وهذا زيادة في التحريض على قتالهم.

وفُرّع على هذا التقرير جملة { فالله أحق أن تخشوه } أي فالله الذي أمركم بقتالهم أحقّ أن تخشوه إذا خطر في نفوسكم خاطر عدم الامتثال لأمره، إن كنتم مؤمنين، لأنّ الإيمان يقتضي الخشية من الله وعدم التردّد في نجاح الامتثال له.

وجيء بالشرط المتعلّق بالمستقبل، مع أنّه لا شكّ فيه، لقصد إثارة همّتهم الدينية فيبرهنوا على أنّهم مؤمنون حقّا يقدمون خشية الله على خشية الناس.