التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٩٨
-التوبة

التحرير والتنوير

هذا فريق من الأعراب يُظهر الإيمان ويُنفق في سبيل الله. وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفاً من الغزو أو حباً للمحمدة وسلوكاً في مسلك الجماعة، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكِّنهم من الانقلاب على أعقابهم. وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق، لأن التقاسيم في المقامات الخَطابية والمجادلات تعتمد اختلافاً مَّا في أحوال المقسّم، ولا يُعبأ فيها بدخول القسم في قسِيمه.

فقوله: { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } هو في التقسيم كقوله: { { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } [التوبة: 99]. ومعنى { يتخذ } يَعُد ويجعل، لأن اتخذ من أخوات جعل. والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة برداً. ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو { { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [النحل: 91] فكذلك { يَتخذ } هنا.

والمَغرم: ما يدفع من المال قهراً وظُلماً، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعُدون ذلك كالأتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية. ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قائلهم من طيء في زمن أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام:

فَقُولاَ لهذا المرءِ ذُو جاءَ ساعياًهَلُمَّ فإن المَشْرفيَّ الفرائض

أي فرائض الزكاة هي السيف، أي يعطون الساعي ضربَ السيف بدلاً عن الزكاة.

والتربص: الانتظار. والدوائر: جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: { { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } في سورة العقود (52).

والباء للسببية كقوله تعالى: { { نتربص به ريب المنون } [الطور: 30] وجُعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف. والتقدير: ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سبباً لانتظارِ الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم.

فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو كامن فيهم من الكفر. وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الردة من العرب.

وجملة: { عليهم دائرة السوء } دعاء عليهم وتحقير، ولذلك فُصلت. والدعاء من الله على خلقه: تكوين وتقدير مشوبٌ بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده. وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: { فلعنة الله على الكافرين } في سورة البقرة (89).

وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين. وإضافة { دائرة } إلى { السوء } من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم: عِشاءُ الآخِرة. إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء. قال أبو علي الفارسي: لو لم تضف الدائرة إلى السوء عُرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه. ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول الفرزدق:

فكنتَ كذئب السَّوء حين رأى دَماًبصاحبه يوماً أحال على الدم

إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس. والسَّوء ـــ بفتح السين ـــ المصدر، وبضمها الاسم. وقد قرأ الجمهور بفتح السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين. والمعنى واحد.

وجملة: { والله سميع عليم } تذييل، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه.