قوله تعالى: { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ قَالُواْ سَلاَماً } اآية. لم يبين هنا ما المراد بهذه البشرى التي جاءت بها الرسل الملائكة إبراهيم ولكنه أشار بعد هذا إلى أنها البشارة بإسحاق ويعقوب في قوله: { وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود: 71] لأن البشارة بالذرية الطيبة شاملة للأم والأب، كما يدل لذلك قوله: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [الصافات: 112].
وقوله: { قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } [الذاريات: 28] وقوله: { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [الحجر: 53] وقيل: البشرى هي إخبارهم له بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط، وعليه فالآيات المبينة لها كقوله هنا في هذه السورة: { { قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } [هود: 70] الآية.
وقوله: { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ } [الحجر: 58 - 59] الآية.
وقوله: { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [الذاريات: 32 - 33] وقوله: { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُشْرَىٰ قَالُوۤاْ إِنَّا مُهْلِكُوۤ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } [العنكبوت: 31].
والظاهر القول الأول: وهذه الآية الأخيرة تدل عليه لأن فيها التصريح بأن إخبارهم بإهلاك قوم لوط بعد مجيئهم بالبشرى، لأنه مرتب عليه بأداة الشرط التي هي "لما" كما ترى.
قوله تعالى. { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ } الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن إبراهيم لما سلم على رسل الملائكة وكان يظنهم ضيوفاً من الآدميين، أسرع إليهم بالإتيان بالقرى وهو لحم عجل حنيذ - أي منضج بالنار - وأنهم لما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة فقالوا لا تخف وأخبروه بخبرهم.
وبين في الذاريات: أنه راغ إلى أهله - أي مال إليهم - فجاء بذلك العجل وبين أنه سمين، وأنه قربه إليهم، وعرض عليهم الأكل برفق فقال لهم: { أَلاَ تَأْكُلُونَ } [الذاريات: 27] وأنه أوجس منهم خيفة وذلك في قوله: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } [الذاريات: 24 - 28] الآية.
تنبيه
يؤخذ من قصة إبراهيم مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة. منها - تعجيل القرى لقوله { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }.
ومنها - كون القرى من أحسن ما عنده، لأنهم ذكروا أن الذي عنده البقر وأطيبه لحماً الفتى السمين المنضح.
ومنها - تقريب الطعام إلى الضيف.
ومنها - ملاطفته بالكلام بغاية الرفق، كقوله { أَلاَ تَأْكُلُون }.
ومعنى قوله { نكرهم } أي أنكرهم لعدم أكلهم، والعرب تطلق نكر وأنكر بمعنى واحد وقد جمعهما قول الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وروي عن يونس: أن أبا عمرو بن العلاء حدثه: أنه صنع هذا البيت وأدخله في شعر الأعشى. والله تعالى أعلم.