التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
-البقرة

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ }.
لم يبين هنا هذا الذي كلمه الله منهم وقد بين أن منهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله:
{ { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [النساء: 164] وقوله: { { إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [الأعراف: 144].
قال ابن كثير منهم من كلم الله يعني موسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم، وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه قال مقيده - عفا الله عنه - تكليم آدم الوارد في صحيح ابن حبان يبينه قوله تعالى:
{ { وَقُلْنَا يَاآدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [البقرة: 35] وأمثالها من الآيات فإنه ظاهر في أنه بغير واسطة الملك، ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه، فهو رسول إليها بذلك قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } [البقرة: 253] ما نصه: وقد "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو؟ فقال: نعم نبي مكلم" ، قال ابن عطيه: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى اهـ وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [البقرة: 38] في سورة البقرة ما نصه: لأن آدم كان هو النَّبي صلى الله عليه وسلم أيام حياته، بعد أن أهبط إلى الأرض، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنياً وهو - الرسول صلى الله عليه وسلم - بقوله: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [البقرة: 38] أي: رسل اهـ محل الحجة منه بلفظه. وفيه وفي كلام ابن كثير المتقدم عن صحيح ابن حبان التصريح بأن آدم رسول وهو مشكل مع ما ثبت في حديث الشفاعة المتفق عليه من أن نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أول الرسل ويشهد له قوله تعالى: { { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } [النساء: 163] والظاهر أنه لا طريق للجمع إلا من وجهين:
الأول: أن آدم أرسل لزوجه وذريته في الجنة، ونوح أول رسول أرسل في الأرض، ويدل لهذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ويقول
"ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" . الحديث فقوله إلى أهل الأرض لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض، لكان ذلك الكلام حشوا، بل يفهم من مفهوم مخالفته ما ذكرنا. ويتأنس له بكلام ابن عطية الذي قدمنا نقل القرطبي له.
الوجه الثاني: أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه، ونوح هو أول رسول أرسل لقوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى:
{ { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } [يونس: 19] الآية. أي: على الدين الحنيف أي حتى كفر قوم نوح، وقوله: { { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ } [البقرة: 213] الآية. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ }.
أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم كقوله:
{ { لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [الإسراء: 79] أو قوله: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } [سبأ: 28] الآية. وقوله: { { إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [الأعراف: 158] وقوله: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] وأشار في مواضع أخر إلى أن منهم إبراهيم كقوله: { { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء: 125] وقوله: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [البقرة: 124] إلى غير ذلك من الآيات وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله: { { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [الإسراء: 55] وأشار في موضع آخر إلى أن منهم إدريس وهو قوله: { { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [مريم: 57] وأشار هنا إلى أن منهم عيسى بقوله: { { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ } [البقرة: 87] الآية.
تنبيه: في هذه الآية الكريمة أعني: قوله تعالى: { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [البقرة: 253] الآية. إشكال قوي معروف. ووجهه: أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله" وثبت أيضاً في حديث أبي سعيد المتفق عليه "لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة" الحديث، وفي رواية "لا تفضِّلوا بين أنبياء الله" ، وفي رواية "لا تخيروني من بين الأنبياء" . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين انبياء الله" ، رواها الأئمة الثقاة، أي: لا تقولوا فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان اهـ. قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه: والجواب من وجوه. أحدها أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل، وفي هذا نظر. الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع. الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر. الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية، الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم، وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به اهـ منه بلفظه وذكر القرطبي في تفسيره أجوبة كثيرة عن هذا الإشكال، واختار أن منع التفضيل في خصوص النبوة، وجوازه في غيرها من زيادة الأحوال والخصوص والكرامات فقد قال ما نصه: قلت وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات.
وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم ومنهم من اتخذ خليلاً ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات. قال الله تعالى:
{ { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [الإسراء: 55] قلت: وهذا قول حسن فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطى من الوسائل وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال إن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء فقالوا بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء؟ فقال: إن الله تعالى قال: { { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 29] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّر } [الفتح: 1-2] قالوا فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [إبراهيم: 4] وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } [سبأ: 28] فأرسله إلى الجن والإنس، وذكره أبو محمد الدارمي في مسنده، وقال أبو هريرة خير بني آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهم أولو العزم من الرسل وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل. فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة، واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء به اهـ. محل الغرض منه بلفظه.
واختار ابن عطية كما نقله عنه القرطبي أن وجه الجمع جواز التفضيل إجمالاً كقوله صلى الله عليه وسلم:
"أنا سيد ولد آدم ولا فخر" ولم يعين ومنع التفضيل على طريق الخصوص كقوله: "لا تفضلوني على موسى" وقوله: "لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" ونحو ذلك والعلم عند الله تعالى، قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 262] يفهم من هذه الآية أن من اتبع إنفاقه المن والأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا في قوله: { { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 262] وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [البقرة: 264] الآية.