التفاسير

< >
عرض

لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
٣
-الأنبياء

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار أخفوا النجوى فيما بينهم، قائلين: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر مثلهم، فكيف يكون رسولاً إليهم؟ والنجوى: الإسرار بالكلام وإخفاؤه عن الناس. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من دعواهم: أن بشراً مثلهم لا يمكن أن يكون رسولاً، وتكذيب الله لهم في ذلك ـ جاء في آيات كثيرة، وقد قدمنا كثيراً من ذلك، كقوله:
{ { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء: 94]، وقوله: { { فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } [التغابن: 6] الآية، وقوله: { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [القمر: 24] وقوله: { { مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [المؤمنون: 33-34]، وقوله تعالى: { { مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ } [الفرقان: 7] الآية، وقوله تعالى: { { قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا } [إبراهيم: 10] الآية. والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، كما تقدم إيضاح ذلك.
وقد رد الله عليهم هذه الدعْوَى الكاذبة التي هي منع إرسال البشر، كقوله هنا في هذه السورة الكريمة:
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43]، وقوله تعالى: { { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [الرعد: 38] الآية، وقوله تعالى: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ } [الفرقان: 20]، وقوله هنا: { { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } [الأنبياء: 8]، إلى غير ذلك من الآيات. وجملة { هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }. قيل بدل من "النجوى". أي أسروا النجوى التي هي هذا الحديث الخفي الذي هو قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم. وصدر به الزمخشري، وقيل: مفعول به للنجوى. لأنها بمعنى القول الخفي. أي قالوا في خفية: { هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }. وقيل: معمول قول محذوف. أي قالوا هل هذا إلا بشر مثلكم. وهو أظهرها. لاطراد حذف القول مع بقاء مقوله. وفي قوله: { ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أوجه كثيرة من الإعراب معروفة، وأظهرها عندي: أنها بدل من الواو في قوله: { وَأَسَرُّواْ } بدل بعض من كل، وقد تقرر في الأصول: أن بدل البعض من الكل من المخصصات المتصلة، كقوله تعالى: { { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران: 97]. فقوله { من } بدل من "الناس": بدل بعض من كل، وهي مخصصة لوجوب الحج بأنه لا يجب إلاَّ على من استطاع إليه سبيلاً. كما قدمنا هذا في سورة "المائدة".
قوله تعالى: { أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }.
إعراب هذه الجملة جار مجرى إعراب الجملة التي قبلها، التي هي { هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [الأنبياء: 3]، والمعنى: أنهم زعموا أن ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم سحر، وبناء على ذلك الزعم الباطل أنكروا على أنفسهم إتيان السحر وهم يبصرون. يعنون بذلك تصديق النَّبي صلى الله عليه وسلم، أي لا يمكن أن نصدقك ونتبعك، ونحن نبصر أن ما جئت به سحر. وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع أنهم ادعوا أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم سحر، كقوله عن بعضهم:
{ { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [المدثر: 24]، وقوله تعالى: { كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [الذاريات: 52]. وقد رد الله عليهم دعواهم أن القرآن سحر بقوله هنا: { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [الأنبياء: 4] يعني أن الذي يعلم القول في السماء والأرض الذي هو السميع العليم، المحيط علمه بكل شيء، هو الذي أنزل هذا القرآن العظيم، وكون من أنزله هو العالم بكل شيء يدل على كمال صدقه في الأخبار وعدله في الأحكام، وسلامته من جميع العيوب والنقائص، وأنه ليس بسحر. وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع: كقوله تعالى: { قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الفرقان: 6] الآية، وقوله تعالى: { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } [النساء: 166] إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ } بألف بعد القاف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي، وقرأه الباقون { قُلْ } بضم القاف وإسكان اللام بصيغة الأمر.