التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
٢
-الفرقان

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } بدل من الذي في قوله تعالى: { تبارك الذي نزل }، وقال بعضهم: هو مرفوع على المدح، وقال بعضهم: هو منصوب على المدح. وقد أثنى ـ جل وعلا ـ على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور، هي أدلة قاطعة على عظمته، واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له:
الأول منها: أنه هو الذي له ملك السموات والأرض.
والثاني: أنه لم يتخذ ولداً، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
والثالث: أنه لا شريك له في ملكه.
والرابع: أنه هو خالق كل شيء.
والخامس: أنه قدر كل شيء خلقه تقديراً، وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر.
أما الأول منها: وهو أنه له ملك السموات والأرض، فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى في سورة المائدة:
{ { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [المائدة: 40] الآية. وقوله تعالى في سورة النور: { { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [النور: 42] وقوله تعالى: { { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } } [فاطر: 13] الآية. وجميع الآيات التي ذكر فيها جل وعلا أن له الملك، فالملك فيها شامل لملك السموات والأرض، وما بينهما وغير ذلك. كقوله تعالى: { { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران: 26] الآية، وقوله تعالى: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } [الملك: 1] الآية: وقوله تعالى: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] وقوله تعالى: { { وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّوَرِ } [الأنعام: 73] الآية. وقوله تعالى: { { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4] والآيات الدالة على أن له ملك كل شيء كثيرة جداً معلومة.
وأما الأمر الثاني: وهو كونه تعالى لم يتخذ ولداً، فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص: 3ـ4] وقوله تعالى: { { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } [الجن: 3] وقوله تعالى: { { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ } [الأنعام: 101] الآية. وقوله تعالى: { { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [مريم: 88ـ93] وقوله تعالى: { { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [الكهف: 4ـ5] وقوله تعالى: { { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } [الإسراء: 40] وقوله تعالى: { { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ } [المؤمنون: 91] إلى قوله: { { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون: 91] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة وقد قدمنا ذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة الكهف وغيرها.
وأما الأمر الثالث، وهو كونه تعالى لم يكن له شريك في الملك، فقد جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في آخر سورة بني إسرائيل
{ { وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ } [الإسراء: 111] الآية، وقوله تعالى في سورة سبأ: { { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } [سبأ: 22] وقوله تعالى: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] لأن قوله: الواحد القهار يدل على تفرده بالملك، والقهر، واستحقاق إخلاص العبادة، كما لا يخفى. إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأمر الرابع: وهو أنه تعالى خلق كل شي، فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَٱعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } } [الأنعام: 101ـ102] وقوله تعالى: { { ذَلِكُـمُ ٱللَّهُ رَبُّـكُمْ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [غافر: 62ـ63] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأمر الخامس: وهو أنه قدَّر كل شيء خلقه تقديراً، فقد جاء أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 2ـ3] وقوله تعالى: { { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد: 8] وقوله تعالى: { { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر: 49] إلى غير ذلك من الآيات وقال ابن عطية: تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة، والأزمان، والمقادير، والمصلحة، والإتقان. انتهى بواسطة نقل أبي حيان في البحر.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: الخلق في اللغة العربية، معناه التقدير ومنه قول زهير:

ولأنت تفرى ما خلقت وبعـــض القوم يخلق ثم لا يفرى

قال بعضهم: ومنه قوله تعالى: { { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] قال: أي أحسن المقدرين، وعلى هذا فيكون معنى الآية وخلق كل شيء: أي قدر كل شيء فقدره تقديراً، وهذا تكرار كما ترى، وقد أجاب الزمخشري عن هذا السؤال، وذكر أبو حيان جوابه في البحر ولم يتعقبه.
والجواب المذكور هو قوله: فإن قلت في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } كأنه قال: وقدر كل شيء فقدره.
قلت: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعي فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له.
مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى، الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الحيلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدره لأمر ما ومصلحة مطابقاً لما قدر له غير متجاف عنه، أو سمى إحداث الله خلقاً، لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلا على وجه التقدير غير متفاوت، فإذا قيل: خلق الله كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتاً، وقيل: فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمد معلوم. انتهى كلام صاحب الكشاف وبعضه له اتجاه. والعلم عند الله تعالى.