التفاسير

< >
عرض

يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
١١
-النساء

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِي ۤ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ }.
لم يبين هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة.
ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر وهو قوله تعالى:
{ ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء: 34] لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقّب للنقص دائماً، و المَقُوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائماً، والحكمة في إيثار مترقّب النقص على مترقّب الزيادة جبراً لنقصة المترقّب ظاهرة جِداً.
قوله تعالى: { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } الآية.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأنَّ البنات إن كن ثلاثاً فصاعداً، فلهن الثلثان وقوله: { فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ } يوهم أن الاثنتين ليستا كذلك، وصرح بأن الواحدة لها النصف، ويفهم منه أن الاثنتين ليستا كذلك أيضاً، وعليه ففي دلالة الآية على قدر ميراث البنتين إجمال.
وقد أشار تعالى في موضعين إلى أن هذا الظرف لا مفهوم مخالفة له، وأن للبنتين الثلثين أيضاً. الأول: قوله تعالى: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } [النساء: 11] إذ الذكر يرِث مع الواحدة الثلثين بلا نزاع، فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة، وإلا لم يكن للذكر مثل حظّ الأنثيين. لأن الثلثين ليسا بحظّ لهما أصلاً، لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع، إذ ما من صورة يجتمع فيها الابنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان، فتعين أن تكون صورة انفرادهما عن الذكر. واعتراض بعضهم هذا الاستدلال بلزوم الدور قائلاً: إن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة تتوقف على معرفة حَظّ الأنثيين. لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظّ الأنثيين. فلو كانت معرفة حظّ الأنثيين مستخرجة من حظّ الذكر لزم الدور ساقط. لأن المستخرج هو الحظّ المعين للأنثيين وهو الثلثان، و الذي يتوقّف عليه معرفة حظّ الذكر هو معرفة حظّ الأنثيين مطلقاً، فلا دور لانفكاك الجهة. واعترضه بعضهم أيضاً بأن للابن مع البنتين النصف، فيدل على أن فرضهما النصف، ويؤيد الأول أن البنتين لما استحقّتا مع الذكر النصف عُلم أنهما إن انفردتا عنه، استحقتا أكثر من ذلك. لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف، بعدما كانت معه تأخذ الثلث، ويزيده إيضاحاً أن البنت تأخذ مع الابن الذكر الثلث بلا نزاع، فلأن تأخذه مع الابنة الأنثى أَوْلَى.
فبهذا يظهر أنهُ جل وعلا، أشار إلى ميراث البنتين بقوله: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } [النساء: 11] كما بينا، ثم ذكر حكم الجماعة من البنات، وحكم الواحدة منهن بقوله: { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } [النساء: 11] ومما يزيده إيضاحاً، أنَّه تعالى فرعه عليه بالفاء في قوله: { فَإِنْ كُنَّ } إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر. الموضع الثاني: هو قوله تعالى في الأختين:
{ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } [النساء: 176]. لأن البنت أمسّ رحماً، وأقوى سبباً في الميراث من الأخت بلا نزاع.
فإذا صرح تعالى: بأن للأختين الثلثين، علم أن البنتين كذلك من باب أولى، وأكثر العلماء على أن فحوى الخطاب، أعني: مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق، من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس، خلافاً للشافعي وقوم، كما علم في الأصول، فالله تبارك وتعالى لما بين أن للأختين الثلثين، أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى.
وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط، ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات، أفهم أيضاً من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين. لأنه لما لم يعط للبنات عُلم أنه لا تستحقّه الأخوات، فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به، وهو دليل على أنه قصد أخذه منه، ويزيد ما ذكرنا إيضاحاً ما أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وابن ماجه، عن جابر رضي الله عنه، قال:
"جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد قُتل أبوهما يوم أُحد، وإن عمهما أخذ مالهما، ولم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال صلى الله عليه وسلم: يقضي الله تعالى، في ذلك" . فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال "اعْطِ ابنتي سعد الثلثين، واعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك".
وما يروى عن ابن عباس، رضي الله عنهما، من أنه قال: للبنتين النصف. لأن الله تعالى، قال: { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [النساء: 11] فصرح بأن الثُلثين إنما هما لِما فوق الاثنتين فيه أمور، الأول: أنه مردود بمثله؛ لأن الله قال ايضاً: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } [النساء: 11] فصرح بأن النصف للواحدة جاعلاً كونها واحدة شرطاً معلقاً عليه فرض النصف.
وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها، ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف؛ لأن مفهوم الشرط لم يقدم عليه من المفاهيم، إلا ما قال فيه بعض العلماء: إنه منطوق لا مفهوم وهو النفي والإثبات، وإنما من صيغ الحصر والغاية، وغير هذا يقدم عليه مفهوم الشرط قال في مراقي السعود مبيناً مراتب مفهوم المخالفة:

أعلاه لا يرشد إلا العلما فما لمنطوق بضعف انتمى
فالشرط فالوصف الذي يناسب فمطلق الوصف الذي يقارب
فعدد ثمة تقديم يلي وهو حجة على النهج الجلي

وقال صاحب جمع الجوامع ما نصه: مسألة الغاية قيل: منطوق والحق مفهوم يتلوه الشرط، فالصفة المناسبة، فمطلق الصفة غير العدد، فالعدد، فتقديم المعمول إلخ، وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } [النساء: 11] أقوى من مفهوم الظرف في قوله { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ } [النساء: 11] الثاني: دلالة الآيات المتقدمة على أن للبنتين الثلثين، الثالث: تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث جابر المذكور آنفاً. الرابع: أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك.
قال الألوسي في تفسيره ما نصّه: وفي شرح الينبوع نقلاً عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط، صحّ رجوع ابن عبّاس رضي الله عنهما عن ذلك فصار إجماعاً اهـ. منه بلفظه.
تنبيهان
الأول: ما ذكره بعض العلماء وجزم به الألوسي في تفسيره من أن المفهوم في قوله: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } مفهوم عدد غلط. والتحقيق هو ما ذكرنا من أنه مفهوم شرط، وهو اقوى من مفهوم العدد بدرجات كما رايت فيما تقدم. قال في نشر البنود على مراقي السعود في شرح قوله:

وهو ظرف علة وعدد ومنه شَرْط غاية معتمد

ما نصّه: والمراد بمفهوم الشرط ما فهم من تعليق حكم على شيء بأداة شرط كإن وإذا، وقال في شرح هذا البيت أيضاً قبل هذا ما نصه: ومنها الشرط نحو { { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ } [الطلاق: 6] مفهوم انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط أي: فغير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن ونحو من تطهر صحت صلاته اهـ منه بلفظه.
فكذلك قوله: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } [النساء: 11] علق فيه فرض النصف على شرط هو كون البنت واحدة، ومفهومه أنه إن انتفى الشرط الذي هو كونها واحدة انتفى المشروط الذي هو فرض النصف كما هو ظاهر، فإن قيل كذلك المفهوم في قوله: { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ } [النساء: 11] لتعليقه بالشرط فالجواب من وجهين:
الأول: أن حقيقة الشرط كونهن نساء. وقوله فوق اثنتين وصف زائد، وكونها واحدة هو نفس الشرط لا وصف زائد، وقد عرفت تقديم مفهوم الشرط على مفهوم الصفة ظرفاً كانت أو غيره.
الثاني: أنا لو سلمنا جدلياً أنه مفهوم شرط لتساقط المفهومان لاستوائهما ويطلب الدليل من خارج، وقد ذكرنا الأدلة على كون البنتين ترثان الثلثين كما تقدم.
الثاني: إن قيل فما الفائدة في لفظة فوق اثنتين إذا كانت الاثنتان كذلك؟ فالجواب من وجهين:
الأول: هو ما ذكرنا من أن حكم الاثنتين أخذ من قوله قبله: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } [النساء: 11] كما تقدم وإذن فقوله: { فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ } تنصيص على حكم الثلاث فصاعداً كما تقدم.
الثاني: أن لفظة { فَوْقَ } ذكرت لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ.
وأما ادعاء أن لفظة { فَوْقَ } زائدة وادعاء أن { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } معناه اثنتان فما فوقهما فكله ظاهر السقوط كما ترى، والقرآن ينزه عن مثله وإن قال به جماعة من أهل العلم.