التفاسير

< >
عرض

فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
١١
-الشورى

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { فَاطِرُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ }.
قوله تعالى: { فَاطِرُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْض } تقدم تفسيره في أول سورة فاطر.
وقوله: { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }.
أي خلق لكم أزواجاً من أنفسكم كما قدمنا الكلام عليه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:
{ { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } [النحل: 72] وبينا أن المراد بالأزواج الإناث كما يوضحه قوله تعالى: { { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَة } ً } [الروم: 21] الآية. وقوله تعالى: { { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } [النجم: 45-46] وقوله: { فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [القيامة: 39] وقوله تعالى: { { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [الليل: 1-3] الآية. وقوله في آدم: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء: 1] الآية. وقوله تعالى فيه أيضاً: { { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيها } [الأعراف: 189] الآية. وقوله تعالى فيه أيضاً: { { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الزمر: 6] الآية.
وقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجا } هي الثمانية المذكورة في قوله تعالى:
{ { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ } [الأنعام: 143] الآية. وفي قوله: { { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6] وهي ذكور الضأن والمعز والإبل والبقر وإناثها، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: { { وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ } [آل عمران: 14].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } الظاهر أن ضمير الخطاب في قوله { يذرؤكم } شامل للآدميين والأنعام، وتغليب الآدميين على الأنعام في ضمير المخاطبين في قوله: يذرؤكم واضح لا إشكال فيه.
والتحقيق إن شاء الله أن الضمير في قوله: "فيه" راجع إلى ما ذكر من الذكور والإناث، من بني آدم والأنعام في قوله تعالى:
{ { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجا } [الشورى: 11] سواء قلنا إن المعنى: أنه جعل للآدميين إناثاً من أنفسهم أي من جنسهم، وجعل للأنعام أيضاً إناثاً كذلك، أو قلنا إن المراد بالأزواج الذكور والإناث منهما معاً.
وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الآية الكريمة يذرؤكم أي يخلقكم ويبثكم وينشركم فيه، أي فيما ذكر من الذكور والإناث، أي في ضمنه، عن طريق التناسل كما هو معروف.
ويوضح ذلك في قوله تعالى:
{ { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [النساء: 1] فقوله تعالى: { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } يوضح معنى قوله: { يَذْرَؤُكُمْ فِيه }.
فإن قيل: ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله يذرؤكم فيه، مع أنه على ما ذكرتم، عائد إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام؟
فالجواب: أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن، رجوع الضمير أو الإشارة بصيغة الإفراد إلى مثنى أو مجموع باعتبار ما ذكر مثلاً.
ومثاله في الضمير:
{ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } [الأنعام: 46] الآية، فالضمير في قوله: به مفرد مع أنه راجع إلى السمع والأبصار والقلوب.
فقوله: { يأتيكم به } أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم، ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج:

فيها خطوط من سواد وبلق كأن في الجلد توليع البهق

فقوله: كأنه أي ما ذكر من خطوط من سواد وبلق.
ومثاله في الإشارة
{ { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } [البقرة: 68] أي بين ذلك المذكور، من فارض وبكر، وقول عبد الله بن الزبعري السهمي:

إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل

أي كلا ذلك المذكور من الخير والشر.
وقول من قال، إن الضمير في قوله فيه راجع إلى الرحم، وقول من قال راجع إلى البطن، ومن قال راجع إلى الجعل المفهوم من جعل وقول من قال: راجع إلى التدبير، ونحو ذلك من الأقوال خلاف الصواب.
والتحقيق إن شاء الله هو ما ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }.
وقد قدمنا الكلام عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى:
{ { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [الأعراف: 54].