التفاسير

< >
عرض

مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ
٣
-الأحقاف

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى }.
صيغة الجمع في قوله: خلقنا للتعظيم.
وقوله: إلا بالحق أي خلقا ملتبساً بالحق.
والحق ضد الباطل، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبساً بالحق أنه خلقهما لحكم باهر، ولم يخلقهما باطلاً، ولا عبثاً، ولا لعباً، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبساً به، إقامة البرهان، على أنه هو الواحد المعبود وحده جل وعلا، كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم كقوله تعالى في البقرة
{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة: 163] ثم أقام البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله بعده: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164].
فتلبس خلقه للسماوات والأرض بالحق واضح جداً، من قوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } إلى قوله { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون }[البقرة: 164] بعد قوله
{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [البقرة: 163] لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله هو أعظم الحق.
وكقوله تعالى:
{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 21] { { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 22]، لأن قوله { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُم } فيه معنى الإثبات من لا إله إلا الله.
وقوله { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه.
وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع، على صحة معنى لا إله إلا الله، نفياً وإثباتاً، بخلقه للسماوات والأرض، وما بينهما في قوله
{ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } [البقرة: 21-22 } الآية.
وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بأعظم الحق، الذي هو إقامة البرهان القاطع، على توحيده جل وعلا، ومن كثرة الآيات القرآنية، الدالة على إقامة هذا البرهان، القاطع المذكور، على توحيده جل وعلا، علم من استقراء القرآن، أن العلامة الفارقة من يستحق العبادة، وبين من لا يستحقها، هي كونه خالقاً لغيره، فمن كان خالقاً لغيره، فهو المعبود بحق، ومن كان لا يقدر على خلق شيء، فهو مخلوق محتاج، لا يصح أن يعبد بحال.
فالآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً كقوله تعالى في آية البقرة المذكورة آنفاً:
{ { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة: 21] الآية.
فقوله: { الَّذِي خَلَقَكُمْ } يدل على أن المعبود هو الخالق وحده، وقوله تعالى:
{ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الرعد: 16] الآية. يعني وخالق كل شيء هو المعبود وحده.
وقد أوضح تعالى هذا في سورة النحل، لأنه تعالى لما ذكر فيها البراهين القاطعة، على توحيده جل وعلا، في قوله
{ { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } إلى قوله { { وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } أتبع ذلك بقوله { { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [النحل: 3-17].
وذلك واضح جداً فى أن من يخلق غيره هو المعبود وأن من لا يخلق شيئاً لا يصح أن يعبد.
ولهذا قال تعالى بعده قريباً منه
{ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [النحل: 20]. وقال تعالى في الأعراف { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف: 191]. وقال تعالى في الحج { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ } [الحج: 73] أي ومن لم يقدر أن يخلق شيئاً لا يصح أن يكون معبوداً بحال وقال تعالى: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } [الأعلى: 1-2] الآية.
ولما بين تعالى في أول سورة الفرقان، صفات من يستحق أن يعبد، ومن لا يستحق ذلك.
قال في صفات من يستحق العبادة:
{ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان: 2].
وقال في صفات من لا يصح أن يعبد
{ وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الفرقان: 3]. الآية.
والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً وكل تلك الآيات تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق.
وقد بين جل وعلا أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وبينهما، خلقاً متلبساً به، تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وذلك في قوله تعالى:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا } [الطلاق: 12].
فلام التعليل في قوله: لتعلموا متعلقة بقوله { خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } الآية وبه تعلم أنه ما خلق السماوات السبع، والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن، إلا خلقاً متلبساً بالحق.
ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به، هو تكليف الخلق، وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى في أول سورة هود:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7].
فلام التعليل في قوله: ليبلوكم متعلقة بقوله { خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وبه تعلم أنه ما خلقهما إلا خلقاً متلبساً بالحق.
ونظير ذلك قوله تعالى في أول الكهف
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [الكهف: 7]. وقوله تعالى في أول الملك: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2].
ومما يوضح أنه ما خلق السماوات والأرض إلا خلقاً متلبساً بالحق، قوله تعالى في آخر الذاريات
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 56-57].
سواء قلنا: إن معنى إلا ليعبدون أي لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم، لأن عبادتهم يحصل بهم تعظيم الله وطاعته، والخضوع له كما قال تعالى:
{ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } [الأنعام: 89]. وقال تعالى: { فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ } [فصلت: 38].
أو قلنا: إن معنى إلا ليعبدون أي إلا ليقروا لي بالعبودية، ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي، لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعاً، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه تعالى كرهاً.
ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال.
وقد بين تعالى أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقا متلبساً به، جزاء الناس بأعمالهم، كقوله تعالى في النجم
{ وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [النجم: 31].
فقوله تعالى: { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي هو خالقها ومن فيهما { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } الآية.
ويوضح ذلك قوله تعالى في يونس
{ إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [يونس: 4].
ولما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، لا لحكمة تكليف وحساب وجزاء، هددهم بالويل من النار، بسبب ذلك الظن السيئ، في قوله تعالى:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } [ص: 27].
وقد نزه تعالى نفسه عن كونه خلق الخلق عبثاً، لا لتكليف وحساب وجزاء، وأنكر ذلك على من ظنه، في قوله تعالى
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } [المؤمنون: 115-116].
فقوله (فتعالى الله) أي تنزه وتعاظم، وتقدس، عن أن يكون خلقهم لا لحكمة تكليف وبعث، وحساب وجزاء.
وهذا الذي نزه تعالى عنه نفسه، نزهه عنه أولو الألباب، كما قال تعالى:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } إلى قوله: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190-191]، فقوله عنهم { سُبْحَانَكَ } أي تنزيهاً لك، عن أن تكون خلقت هذا الخلق، باطلاً لا لحكمة تكليف، وبعث وحساب وجزاء.
وقوله جل وعلا في آية الأحقاف هذه: { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ }، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلاً، ولا لعباً ولا عبثاً.
وهذا المفهوم جاء موضحاً في آيات من كتاب الله كقوله تعالى { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } الآية، وقوله تعالى: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً }، وقوله تعالى:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [الدخان: 38-39].
وقوله تعالى في آية الأحقاف هذه { وَأَجَلٍ مُّسَمًى } معطوف على قوله: { بِالْحَقِّ } أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، وبتقدير أجل مسمى، أي وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض، وهو يوم القيامة كما صرح الله بذلك في أخريات الحجر في قوله تعالى
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ } [الحجر: 85] الآية.
فقوله في الحجر: { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَة } بعد قوله { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } يوضح معنى قوله فى الأحقاف { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى }.
وقد بين تعالى في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمداً ينتهي إليه أمرهما. كما قال تعالى:
{ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67]. وقال تعالى: { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء: 104] وقوله تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ } [إبراهيم: 48] وقوله: { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ } [التكوير: 11] وقوله تعالى { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } [المزمل: 14] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ }.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار معرضون عما أنذرتهم به الرسل جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى في البقرة:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6] وقوله في يس { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس: 10]. وقوله تعالى: { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [الأنعام: 4 - يس: 46]. والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
والإعراض عن الشيء الصدود عنه. وعدم الإقبال إليه.
قال بعض العلماء: وأصله من العرض بالضم. وهو الجانب. لأن المعرض عن الشي يوليه بجانب عنقه. صاداً عنه.
والإنذار: الإعلام المقترن بتهديد. فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذار.
وقد أوضحنا معاني الإنذار في أول سورة الأعراف.
و { ما } في قوله { عَمَّآ أُنذِرُواْ } قال بعض العلماء هي موصولة. والعائد محذوف، أي الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه. أي خوفوه من عذاب يوم القيامة. وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مضطرد كما هو معلوم.
وقال بعض العلماء: هي مصدرية. أي والذين كفروا معرضون عن الإنذار، ولكليهما وجه.