التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٥٤
-الأعراف

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }.
لم يفصل هنا ذلك، ولكنه فصله في سورة "فصلت" بقوله:
{ { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [فصلت: 9-12].
قوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } الآية.
هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات الصفات كقوله
{ { يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح: 10] ونحو ذلك. أشكلت على كثير من الناس إشكالاً ضل بسببه خلق لا يحصى كثرة، فصار قوم إلى تعطيل وقوم إلى التشبيه - سبحانه وتعالى علواً كبيراً عن ذلك كله - والله جل وعلا أوضح هذا غاية الإيضاح، ولم يترك فيه أي لبس ولا إشكال، وحاصل تحرير ذلك أنه جل وعلا بين أن الحق في آيات الصفات متركب من أمرين:
أحدهما: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الحوادث في صفاتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
والثاني: الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. لأنه لا يصف الله اعلم بالله من الله
{ { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ } [البقرة: 140]، ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: { { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [النجم: 3-4] فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه في كتابه العزيز، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم زاعماً أن ذلك الوصف يلزمه ما لا يليق بالله جل وعلا، فقد جعل نفسه أعلم من الله ورسوله بما يليق بالله جل وعلا. { سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16].
ومن اعتقد أن وصف الله يشابه صفات الخلق، فهو مشبه ملحد ضال، ومن أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع تنزيهه جل وعلا عن مشابهة الخلق، فهو مؤمن جامع بين الإيمان بصفات الكمال والجلال، والتنزيه عن مشابهة الخلق، سالم من ورطة التشبيه والتعطيل، والآية التي أوضح الله بها هذا. هي قوله تعالى:
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11] فنفى عن نفسه جل وعلا مماثلة الحوادث بقوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وأثبت لنفسه صفات الكمال والجلال بقوله: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } فصرح في هذه الآية الكريمة بنفي المماثلة مع الاتصاف بصفات الكمال والجلال.
والظاهر أن السر في تعبيره بقوله: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } دون أن يقول مثلاً: وهو العلي العظيم أو نحو ذلك من الصفات الجامعة. أن السمع والبصر يتصف بهما جميع الحيوانات. فبين أن الله متصف بهما، ولكن وصفه بهما على أساس نفي المماثلة بين وصفه تعالى، وبين صفات خلقه. ولذا جاء بقوله: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } بعد قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ففي هذه الآية الكريمة إيضاح للحق في آيات الصفات لا لبس معه ولا شبهة البتة، وسنوضح إن شاء الله هذه المسألة إيضاحاً تاماً بحسب طاقتنا، وبالله جل وعلا التوفيق.
اعلم أولاً: أن المتكلمين قسموا صفاته جل وعلا إلى ستة أقسام:
صفة نفسية، وصفة سلبية، وصفة معنى، وصفة معنوية، وصفة فعلية، وصفة جامعة، والصفة الإضافية تتداخل مع الفعلية. لأن كل صفى فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة، فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة، وتتفرد الفعلية في نحو الاستواء، وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى كان موجوداً قبل كل شيء، وأنه فوق كل شيء، لأن القبلية والفوقية من الصفات الإضافية، وليستا من صفات الأفعال، ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز، وأن فيه من الجراءة على الله جل وعلا ما الله عالم به، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح، لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز، وإن كان المقصود به صحيحاً. لأن الصفة النفسية في الإصطلاح لا تكون إلا جنساً أو فصلاً، فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس ينفصل بها عن غيره من الأفراد المشاركة له في الجنس كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس مثلاً: المشارك له في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية، ووصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحاً ما بينا لك. من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى. لأنه جل وعلا واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته، ولا من صفاته، حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل - سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - لأن الجنس قدر مشترك بين حقائق مختلفة.
والفصل: هو الذي يفصل بعض تلك الحقائق المشتركة في الجنس عن بعض سبحان رب السماوات والأرض وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وسنبين لك أن جميع الصفات على تقسيمهم لها جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها، وهم في بعض ذلك يقرون بأن الخالق موصوف بها، وأنها جاء في القرآن أيضاً وصف المخلوق بها، ولكن وصف الخالق مناف لوصف المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق، ويلزمهم ضرورة فيما أنكروا مثل ما أقروا به لأن الكل من باب واحد، لأن جميع صفات الله جل وعلا من باب واحد، لأن المتصف بها لا يشبهه شيء من الحوادث.
فمن ذلك: الصفات السبع. المعروفة عندهم بصفات المعاني وهي: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.
فقد قال تعالى في وصف نفسه بالقدرة:
{ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 284].
وقال في وصف الحادث بها:
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [المائدة: 34] فأثبت لنفسه قدرة حقيقية لائقة بجلاله وكماله، وأثبت لبعض الحوادث قدرة مناسبة لحالهم من الضعف والافتقار والحدوث والفناء، وبين قدرته، وقدرة مخلوقه من المنافاة ما بين ذاته وذات مخلوقه.
وقال في وصف نفسه بالإرادة:
{ { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود: 107]، { { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82]، { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة: 185]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها:
{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } [الأنفال: 67] الآية { { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } [الأحزاب: 13]، { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ } [الصف: 8]، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوق إرادة أيضاً مناسبة لحاله، وبين إرادة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالعلم:
{ { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 282]، { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء: 166] الآية { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } [الأعراف: 7]. وقال في وصف الحادث به: { قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } [الذاريات: 28]، وقال: { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } [يوسف: 68] ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا علم حقيقي لائق بكماله وجلاله، وللمخلوق علم مناسب لحاله، وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالحياة:
{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } [البقرة:255] { هُوَ ٱلْحَيُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [غافر: 65] الآية. { { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [الفرقان: 58]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها:
{ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } [مريم: 15]، { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء: 30]، { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } [يونس: 31].
فله جل وعلا حياة حقيقية تليق بجلاله وكماله، وللمخلوق أيضاً حياة مناسبة لحاله. وبين حياة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالسمع والبصر:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11]، { { وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [الحج: 61] ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بهما:
{ { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان: 2]، { { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم: 38] الآية ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان يليقان بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر مناسبان لحاله. وبين سمع الخالق وبصره، وسمع المخلوق وبصره من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالكلام
{ { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [النساء: 164]، { إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [الأعراف: 144]، { فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [التوبة: 6] ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق به:
{ { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف: 54]. { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ } [يس: 65] الآية { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } [مريم: 29]، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا كلام حقيقي يليق بكماله وجلاله. وللمخلوق كلام أيضاً مناسب لحاله. وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وهذه الصفات السبع المذكورة يثبتها كثير ممن يقول بنفي غيرها من صفات المعاني.
والمعتزلة ينفونها ويثبتون أحكامها فيقولون: هو تعالى حي قادر، مريد عليم، سميع بصير، متكلم بذاته لا بقدرة قائمة بذاته، ولا إرادة قائمة بذاته هكذا فراراً منهم من تعدد القديم.
ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل. لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل فإذا عدم السواد عن جرم مثلاً استحال أن تقول هو أسود، إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد، وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات، استحال أن تقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك، ولم يقم بها علم ولا قدرة. قال في "مراقي السعود":

وعند فقد الوصف لا يشتق وأعوز المعتزلي الحق

وأما الصفات المعنوية عندهم: فهي الأوصاف المشتقة من صفات المعاني السبع المذكورة، وهي كونه تعالى: قادراً، مريداً عالماً حياً، سميعاً بصيراً، متكلماً.
والتحقيق أنها عبارة عن كيفية الإتصاف بالمعاني، وعد المتكلمين لها صفات زائدة على صفات المعاني، مبني على ما يسمونه الحال المعنوية. زاعمين أنها أمر ثبوتي ليس بموجود، ولا معدوم. والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الذي يسمونه الحال المعنوية لا أصل له، وإنما هو مطلق تخييلات يتخيلونها. لأن العقل الصحيح حاكم حكماً لا يتطرقه شك بأنه لا واسطة بين النقيضين البتة. فالعقلاء كافة مطبقون على أن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان، ولا واسطة بينهما البتة، فكل ما هو غير موجود، فإنه معدوم قطعاً، وكل ما هو غير معدوم، فإنه موجود قطعاً، و هذا مما لا شك فيه كما ترى.
وقد بينا في اتصاف الخالق والمخلوق بالمعاني المذكورة منافاة صفة الخالق للمخلوق، وبه تعلم مثله في الاتصاف بالمعنوية المذكورة لو فرضنا أنها صفات زائدة على صفات المعاني. مع أن التحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بها.
وأما الصفات السلبية عندهم: فهي خمس، وهي عندهم: القدم، والبقاء، والوحدانية، والمخالفة للخلق، والغنى المطلق، المعروف عندهم بالقيام بالنفس.
وضابط الصفة السلبية عندهم: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي أصلاً، إنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله.
أما الصفة التي تدل على معنى وجودي: فهي المعروفة عندهم بصفة المعنى، فالقدم مثلاً عندهم لا معنى له بالمطابقة، إلا سلب العدم السابق، فإن قيل: القدرة مثلاً تدل على سلب العجز، والعلم يدل على سلب الجهل، والحياة تدل على سلب الموت، فلم لا يسمون هذه المعاني سلبية أيضاً؟
فالجواب: أن القدرة مثلاً تدل بالمطابقة على معنى وجودي قائم بالذات، وهو الصفة التي يتأتى بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق الإرادة، وإنما سلبت العجز بواسطة مقدمة عقلية، وهي أن العقل يحكم بأن قيام المعنى الوجودي بالذات يلزمه نفي ضده عنها لاستحالة اجتماع الضدين عقلاً، وهكذا في باقي المعاني.
أما القدم عندهم مثلا: فإنه لا يدل على شيء زائد على ما دل عليه الوجود، إلا سلب العدم السابق، وهكذا في باقي السلبيات، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن القدم. والبقاء اللذين يصف المتكلمون بهما الله تعالى زاعمين، أنه وصف بهما نفسه في قوله تعالى:
{ هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ } [الحديد: 3] الآية، جاء في القرآن الكريم وصف الحادث بهما أيضاً، قال في وصف الحادث بالقدم: { { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [يس: 39]، وقال: { { قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } [يوسف: 95]، وقال: { { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ } [الشعراء: 75-76]، وقال في وصف الحادث بالبقاء: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ } [الصافات: 77]، وقال: { { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [النحل: 96]، وكذلك وصف الحادث بالأولية والآخرية المذكورتين في الآية. قال: { أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ } [المرسلات: 16-17]، ووصف نفسه بأنه واحد، قال: { { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [البقرة: 163]، وقال في وصف الحادث بذلك. { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ } [الرعد: 4] وقال في وصف نفسه بالغنى، { وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [فاطر: 15]، { وَقَالَ مُوسَىۤ إِن تَكْفُرُوۤاْ أَنتُمْ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم: 8]، وقال في وصف الحادث بالغنى: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } [النساء: 6] الآية، { { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ } [النور: 32] الآية، فهو جل وعلا موصوف بتلك الصفات حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله، والحادث موصوف بها أيضاً على الوجه المناسب لحدوثه وفنائه، وعجزه وافتقاره، وبين صفات الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق، كما بيناه في صفات المعاني.
وأما الصفة النفسية عندهم: فهي واحدة، وهي الوجود، وقد علمت ما في إطلاقها على الله، ومنهم من جعل الوجود عين الذات فلم يعده صفة، كأبي الحسن الأشعري، وعلى كل حال، فلا يخفى أن الخالق موجود، والمخلوق موجود، ووجود الخالق ينافي وجود المخلوق، كما بينا.
ومنهم من زعم أن القدم والبقاء صفتان نفسيتان، زاعما أنهما طرفا الوجود الذي هو صفة نفسية في زعمهم.
وأما الصفات الفعلية، فإن وصف الخالق والمخلوق بها كثير في القرآن، ومعلوم أن فعل الخالق مناف لفعل المخلوق كمنافاة ذاته لذاته، فمن ذلك وصفه جل وعلا نفسه بأنه يرزق خلقه، قال:
{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ } [الذاريات: 58] الآية، { { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [سبأ 39]، وقال: { { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] الآية. وقال في وصف الحادث بذلك: { { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } [النساء: 8] الآية، وقال: { { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } [البقرة: 233] الآية، ووصف نفسه بالعمل، فقال: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } [يس: 71] الآية، وقال في وصف الحادث به: { { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17] ووصف نفسه بتعليم خلقه فقال: { { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [الرحمن: 1-4].
وقال في وصف الحادث به:
{ هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [الجمعة: 2] الآية.
وجمع المثالين في قوله تعالى:
{ { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } [المائدة: 4]، ووصف نفسه بأنه ينبئ، ووصف المخلوق بذلك، وجمع المثالين في قوله تعالى: { وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } [التحريم: 3]. ووصف نفسه بالإيتاء، فقال: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } [البقرة: 258]، وقال: { { يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ } [البقرة: 269]، وقال: { { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [هود: 3]، وقال: { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [المائدة: 54].
وقال في وصف الحادث بذلك:
{ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } [النساء: 20]، { { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 2]، { وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } [النساء: 4]. وأمثال هذا كثيرة جداً في القرآن العظيم.
ومعلوم أن ما وصف به الله من هذه الأفعال فهو ثابت له حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وما وصف به المخلوق منها فهو ثابت له أيضاً، على الوجه المناسب لحاله، وبين وصف الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وأما الصفات الجامعة، كالعظم والكبر والعلو، والملك والتكبر والجبروت، ونحو ذلك. فإنها أيضاً يكثر جداً وصف الخالق والمخلوق بها في القرآن الكريم.
ومعلوم أن ما وصف به الخالق منها مناف لما وصف به المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق. قال في وصف نفسه جلا وعلا بالعلو والعظم والكبر:
{ { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ } [البقرة: 255]، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } [النساء: 34]، { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ } [الرعد: 9].
وقال في وصف الحادث بالعظم:
{ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [الشعراء: 63] { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } [الإسراء: 40]، { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [النمل: 23]، { { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } [التوبة: 129] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بالكبر:
{ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [فاطر: 7]، وقال: { { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [الإسراء: 31]، وقال: { { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [الأنفال: 73]ٍ، وقال: { { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } [البقرة: 143]، وقال: { { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45].
وقال في وصف الحادث بالعلو:
{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [مريم: 57]، { { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } [مريم: 50] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالملك:
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ } [الجمعة: 1] الآية { { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ } [الحشر: 23] الآية.
وقال:
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [القمر: 55].
وقال في وصف الحادث به:
{ { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّيۤ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } [يوسف: 43] الآية، { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ } [يوسف: 50]، { { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [الكهف: 79]، { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ } [البقرة: 247]، { { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } [آل عمران: 26] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالعزة:
{ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 209]، { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الجمعة: 1]، { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ٱلْعَزِيزِ ٱلْوَهَّابِ } [ص: 9].
وقال في وصف الحادث بالعزة
{ { قَالَتِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ } [يوسف: 51] الآية، { { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } [ص: 23].
وقال في وصف نفسه جل وعلا بأنه جبار متكبر
{ { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ } [الحشر: 23].
وقال في وصف الحادث بهما:
{ { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر: 35]، { { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } [الزمر: 60]، { { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [الشعراء: 130] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالقوة:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } [الذاريات: 58] { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 40].
وقال في وصف الحادث بها:
{ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [فصلت: 15] الآية { { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ } [هود: 52] الآية { { إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } [القصص: 26]. { { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } [الروم: 54] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثيرة في القرآن، ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله، وجلاله. وإنما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث، ولا إشكال في شيء من ذلك، وكذلك الصفات التي اختلف فيها المتكلمون. هل هي من صفات المعاني أو من صفات الأفعال، وإن كان الحق الذي لا يخفى على من أنار الله بصيرته. أنها صفات معان أثبتها الله، جل وعلا، لنفسه، كالرأفة والرحمة.
قال في وصفه جل وعلا بهما:
{ { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 7] وقال في وصف نبينا صلى الله عليه وسلم بهما: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128] وقال في وصف نفسه بالحلم: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [الحج: 59].
وقال في وصف الحادث به:
{ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } [الصافات: 101]. { { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 114].
وقال في وصف نفسه بالمغفرة: { إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
{ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [الحجرات: 3] ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بها:
{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]. { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } [الجاثية: 14] الآية. { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى } [البقرة: 263] ونحو ذلك من الآيات.
ووصف نفسه جل وعلا بالرضى ووصف الحادث به أيضاً فقال:
{ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [المائدة: 119] ووصف نفسه جل وعلا بالمحبة، ووصف الحادث بها، فقال: { { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ } [المائدة: 54]، { { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران: 31] الآية.
ووصف نفسه بأنه يغضب إن انتهكت حرماته فقال
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة: 60] الآية، { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } [النساء: 93] الآية.
وقال في وصف الحادث بالغضب
{ { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } [الأعراف: 150] وأمثال هذا كثير جداً.
والمقصود عندنا ذكر أمثلة كثيرة من ذلك، مع إيضاح أن كل ما اتصف به جل وعلا من تلك الصفات بالغ من غايات الكمال والعلو والشرف ما يقطع علائق جميع أوهام المشابهة بين صافته جل وعلا، وبين صفات خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
فإذا حققت كل ذلك علمت أنه جل وعلا وصف نفسه بالاستواء على العرش، ووصف غيره بالاستواء على بعض المخلوقات، فتمدح جل وعلا في سبع آيات من كتابه باستوائه على عرشه، ولم يذكر صفة الاستواء إلا مقرونة بغيرها من صفات الكمال، والجلال. القاضية بعظمته وجلاله جل وعلا، وأنه الرب وحده، المستحق لأن يعبد وحده.
الموضع الأول: بحسب ترتيب المصحف الكريم. قوله هنا في سورة الأعراف
{ { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54].
الموضع الثاني: قوله تعالى في سورة يونس:
{ { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [يونس: 3-4] الآية.
الموضع الثالث: قوله تعالى في سورة الرعد:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد: 2-4].
الموضع الرابع: قوله تعالى في سورة طه:
{ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْعُلَى ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ } [طه: 2-6].
الموضع الخامس: قوله في سورة الفرقان
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 58-59]. الموضع السادس: قوله تعالى في سورة السجدة { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ } [السجدة: 4-5]. الآية.
الموضع السابع: قوله تعالى في سورة الحديد
{ { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [الحديد: 4].
وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات:
{ { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } [الزخرف: 13]، { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ } [المؤمنون: 28]، الآية، { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ } [هود: 44] الآية ونحو ذلك من الآيات.
وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك، وأن للخالق جل وعلا استواء لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضاً استواء مناسب لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق. على نحو
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11] كما تقدم إيضاحه.
وينبغي للناظر في هذه المسالة التأمل في أمور:
الأمر الأول: أن جميع الصفات من باب واحد، لأن الموصوف بها واحد، ولا يجوز في حقه مشابهة الحوادث في شيء من صفاتهم، فمن أثبت مثلاً أنه: سميع بصير، وسمعه، وبصره مخالفان لأسماع الحوادث وأبصارهم، لزمه مثل ذلك في جميع الصفات. كالاستواء، واليد، ونحو ذلك من صفاته جل وعلا، ولا يمكن الفرق بين ذلك بحال.
الأمر الثاني: أن الذات والصفات من باب واحد أيضاً، فكما أنه جل وعلا، له ذات مخالفة لجميع ذوات الخلق، فله تعالى صفات مخالفة لجميع صفات الخلق.
الأمر الثالث: في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات. كالاستواء واليد مثلاً.
اعلم أولاً: أنه غلط في خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلا: في الآيات القرآنية. هو مشابهة صفات الحوادث. وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً، لأن اعتقاد ظاهره كفر. لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول. أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا.
والنَّبي صلى الله عليه وسلم قيل له
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44] لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء، على أنه صلى الله عليه وسلم: لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين. حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، و النَّبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة، { سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16].
ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان. هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث.
فبمجرد إضافة الصفة إليه، جل وعلا، يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل، أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل: هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته، وجميع صفاته، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر.
والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات، لا يليق بالله. لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا، وعدم الإيمان بها. مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبهاً أولا، ومعطلا ثانياً. فارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفاً بالله كما ينبغي، معظماً لله كما ينبغي، طاهراً من أقذار التشبيه. لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أن وصف الله جلا وعلا، بالغ من الكمال، والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعداً للإيمان بصفات الكمال والجلالة الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11]، فلو قال متنطع: بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد، ونحو ذلك لنعقلها. قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فنقول: معرفة كيفية الإتصاف متوقفة على معرفة كيفية الذات، فسبحان من لا يستطيع غيره أن يحصي الثناء عليه هو، كما أثنى على نفسه: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [طه:110] { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى:11]، { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص: 1-4]، { { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ } [النحل: 74].
فتحصل من جميع هذا البحث أن الصفات من باب واحد، وأن الحق فيها متركب من أمرين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الخلق.
والثاني: الإيمان بكل ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً، أو نفياً. وهذا هو معنى قوله تعالى:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11]، والسلف الصالح، رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك، ولا كان يشكل عليهم. الا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط، وأما من جهة العلم، فهو عامي:

وكيف أخاف الناس والله قابض على الناس والسبعين في راحة اليد

ومراده بالسبعين: سبع سماوات، وسبع أرضين. فمن علم مثل هذا من كون السماوات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل، فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق، ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، والإيمان بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. هو معنى قول الإمام مالك -رحمه الله -: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة.
ويروى نحو قول مالك هذا عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأم سلمة رضي الله عنها - والعلم عند الله تعالى-.