التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١
وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال صاحب المنار: "هاتان الآيتان فى بيان شأن من شئون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم فى حياتهم الدنيا من خير وشر، ونفع وضر، وشعورهم بالحاجة إلى الله - تعالى - واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها، واستعجالهم الأمور قبل أوانها وهو تعريض بالمشركين، وحجة على ما يأتون من شرك وما ينكرون من أمر البعث، متمم لما قبله، ولذلك عطف عليه.
وقوله: { يعجل } من التعجيل بمعنى طلب الشىء قبل وقته المحدد له والاستعجال: طلب التعجيل بالشىء.
والأجل: الوقت المحدد لانقضاء المدة. وأجل الإِنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره.
والمراد بالناس هنا - عند عدد من المفسرين -: المشركون الذين وصفهم الله - تعالى - قبل ذلك بأنهم لا يرجون لقاءه ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها.
ولقد حكى القرآن فى كثير من آياته، أن المشركين قد استعجلوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى نزول العذاب، ومن ذلك قوله - تعالى -
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } وقوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والمعنى: ولو يعجل الله - تعالى - لهؤلاء المشركين العقوبة التى طلبوها، تعجيلا مثل استعجالهم الحصول على الخير { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أى: لأميتوا وأهلكوا جميعاً، ولكن الله - تعالى - الرحيم بخلقه، الحكيم فى أفعاله، لا يعجل لهم العقوبة التى طلبوها كما يعجل لهم طلب الخير لحكمة هو يعلمها؛ فقد يكون من بين هؤلاء المتعجلين للعقوبة من يدخل فى الإِسلام، ويتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإِمام الرازى: "فقد بين - سبحانه - فى هذه الآية: أنهم لا مصلحة لهم فى تعجيل إيصال الشر إليهم، لأنه - تعالى - "لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا، ولا صلاح فى إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك، وربما خرج من أصلابهم من كان مؤمناً، وذلك يقتضى أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر".
ومن العلماء من يرى أن المراد بالناس هنا ما يشمل المشركين وغيرهم، وأن الآية الكريمة تحكى لونا من ألوان لطف الله بعباده ورحمته بهم.
ومن المفسرين الذين اقتصروا على هذا الاتجاه فى تفسيرهم الإِمام ابن كثير، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: يخبر - تعالى - عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم، أو أموالهم أو أولادهم بالشر فى حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والسخاء، ولهذا قال: { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ... } أى لو استجاب لهم جميع ما دعوه به فى ذلك لأهلكهم.
ثم قال: ولكن لا ينبغى الإِكثار من ذلك، كما جاء فى الحديث الذى رواه الحافظ أبو بكر البزار فى مسنده عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم" .
وقال مجاهد فى تفسير هذه الآية: هو قول الإِنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة فى ذلك كما يستجاب لهم فى الخير لأهلكهم.
أما الإِمام الآلوسى فقد حكى هذين الوجهين، ورجح الأول منهما فقال: "قوله: { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ... } وهم الذين لا يرجون لقاء الله - تعالى - المذكورون فى قوله { ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا... } والمراد لو يعجل الله لهم الشر الذى كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء..."، وأخرج ابن جرير عن قتادة: أنه قال: "هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، وفيه حمل الناس على العموم، والمختار الأول، ويؤيده ما قيل: من أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث حين قال:
{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والذى يبدو لنا أن كون لفظ الناس للجنس أولى، ويدخل فيه المشركون دخولا أوليا، لأنه لا توجد قرينة تمنع من إرادة ذلك، وحتى لو صح ما قيل أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله { ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ } منصوب على المصدرية، والأصل: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير، فحذف تعجيلا وصفته المضافة، وأقيم المضاف إليه مقامها.
ثم بين - سبحانه - ما يشير إلى الحكمة فى عدم تعجيل العقوبة فقال: { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }.
والطغيان: مجاوزة الحد فى كل شىء، ومنه طغى الماء إذا ارتفع وتجاوز حده.
ويعمهون: من العمه، يقال: عمه - كفرح ومنع - عمها، إذا تحير وتردد فهو عمه وعامه.
أى: لا نعجل للناس ما طلبوه من عقوبات، وإنما نترك الذين لا يرجون لقاءنا إلى يوم القيامة، على سبيل الإِمهال والاستدراج فى الدنيا فى طغيانهم يتحيرون ويترددون، بحيث تلتبس عليهم الأمور فلا يعرفون الخير من الشر.
ثم صور - سبحانه - طبيعة الإِنسان فى حالتى العسر واليسر فقال: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ... }.
والمس: اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة.
والضر: ما يصيب الإِنسان من سوء الحال فى نفسه أو بدنه أو غيرهما مما يحبه ويشتهيه.
والمعنى: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ } عن طريق المرض أو الفقر أو غيرها { دَعَانَا } بإلحاح وتضرع لكى نكشفه عنه، فهو تارة يدعونا وهو مضطجع على جنبه، وتارة يدعونا وهو قاعد، وتارة يدعونا وهو قائم على قدميه.
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } وما أصابه من سوء { مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ } أى: مضى واستمر فى غفلته الأولى حتى لكأنه لم تنزل به كروب، ولم يسبق له أن دعانا بإلحاح لكشفها.
وخص - سبحانه - هذه الأحوال بالذكر، لعدم خلو الإِنسان عنها فى العادة.
وقيل: يصح أن يراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار، لأنها قد تكون خفيفة فيدعو الله وهو قائم، وقد تكون متوسطة فيدعوه وهو قاعد، وقد تكون ثقيلة فيدعوه وهو نائم.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: "فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟
قلت: معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا فى حالاته كلها، سواء أكان منبطحا عاجزاً عن النهوض، أم كان قاعداً لا يقدر على القيام، أم كان قائما لا يطيق المشى.
ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشد حالا وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف، وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأن الإِنسان للجنس.."
وفى التعبير بالمس إشارة إلى أن ما أصابه من ضر حتى لو كان يسيراً فإنه لا يترك الدعاء والابتهال إلى الله بأن يكشفه عنه.
وقوله: { لجنبه } فى موضع الحال من فاعل { دعانا } و { أو } لتنويع الأحوال، أو لأصناف المضار.
والتعبير بقوله - سبحانه { مر } يمثل أدق تصوير لطبيعة الإِنسان الذى يدعو الله عند البلاء، وينساه عند الرخاء، فهو فى حالة البلاء يدعو الله فى كل الأحوال، فإذا ما انكشف عنه البلاء مر واندفع فى تيار الحياة. بدون كابح، ولا زاجر، ولا مبالاة، وبدون توقف ليتدبر أو ليعتبر..
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى: كما زين لهذا الإِنسان الدعاء عند البلاء والإِعراض عند الرخاء، زين لهؤلاء المسرفين المتجاوزين لحدود الله، ما كانوا يعملونه من إعراض عن ذكره، ومن غفلة عن حكمته وعن سننه فى كونه.
قال الآلوسى: "وفى الآية ذم لمن يترك الدعاء فى الرخاء، ويهرع إليه فى الشدة، واللائق بحال العاقل التضرع إلى مولاه فى السراء والضراء، فإن ذلك أرجى للإِجابة. ففى الحديث الشريف:
"تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة" .
وأخرج أبو الشيخ عن أبى الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك.
وفى حديث للترمذى عن أبى هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإِسناد
"من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكروب، فليكثر من الدعاء عند الرخاء" .
وقال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "وقد ذم الله - تعالى - من هذه طريقته وصفته فى الدعاء. أما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك، - لأنه يدعو الله فى الشدة والرخاء -، وفى الحديث الشريف: "عجباً لأمر المؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيراً له: إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" .
وبعد أن بين - سبحانه - جانباً من شأنه مع الناس ومن شأنهم معه. أتبع ذلك ببيان مصير الأمم الظالمة ليكون فى ذلك عبرة وعظة فقال - تعالى -:
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا... }.