التفاسير

< >
عرض

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٣٤
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
٣٥
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
٣٦
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: قل يا محمد لهؤلاء الغافلين عن الحق: هل من شركائكم الذين عبدتموهم من دون الله، أو أشركتموهم مع الله، من له القدرة على أن يبدأ خلق الإِنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة... ثم ينشئه خلقا آخر، ثم يعيده إلى الحياة مرى أخرى بعد موته؟
قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده، أما شركاؤكم فهم أعجز من أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له...
وإذا كان الأمر كذلك من الوضوح والظهور { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } والإِفك الصرف والقلب عن الشىء. يقال: أفكه عن الشىء يأفكه أفكا، إذا قلبه عنه وصرفه.
أى فكيف ساغ لكم أن تصرفوا عقولكم عن عبادة الإِله الحق، إلى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر؟!
وجاءت جملة { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ... } بدون حرف العطف على ما قبلها للإِيذان باستقلالها فى الحصول المطلوب، وإثبات المقصود.
وساق - سبحانه - الأدلة بأسلوب السؤال والاستفهام، لأن الكلام إذا كان واضحا جليا ثم ذكر على سبيل الاستفهام، وتفويض الجواب إلى المسئول كان ذلك أبلغ وأوقع فى القلب.
وجعل - سبحانه - إعادة المخلوقات بعد موتها حجة عليهم فى التدليل على قدرته مع عدم اعترافهم بها، للإِيذان بسطوع أدلتها، لأن القادر على البدء يكون أقدر على الإِعادة كما قال - تعالى -
{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ.. } فلما كان إنكارهم لهذه الحقيقة الواضحة من باب العناد أو المكابرة، نزل إنكارهم لها منزلة العدم.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: "فإن قلت: كيف قيل لهم هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده، وهم غير معترفين بالإِعادة؟
قلت: قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن دفعه دافع كان مكابرا رادا الظاهر البين الذى لا مدخل للشبهة فيه، ودلالة على أنهم فى إنكارهم لها منكرون أمرا مسلما معترفا بصحته عند العقلاء. وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } فأمره بأن ينوب عنهم فى الجواب. يعنى أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فتكلم أنت عنهم.."
وقوله: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقّ }. حجة أخرى تدمغ جهلهم، جىء بها لتكون دليلا على قدرة الله على الهداية والإِضلال، عقب إقامة الأدلة على قدرته - سبحانه - على بدء الخلق وإعادتهم.
أى: قل لهم يا محمد - أيضا - على سبيل التهكم من أفكارهم: هل من شركائكم من يستطيع أن يهدى غيره إلى الدين الحق، فينزل كتاباً، أو يرسل رسولا، أو يشرع شريعة، أو يضع نظاما دقيقا لهذا الكون. أو يحث العقول على التدبر والتفكر فى ملكوت السماوات والأرض...؟
قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذى يفعل كل ذلك، أما شركاؤكم فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئا من ذلك أو من غيره.
وقوله: { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ... } توبيخ آخر لهم على جهالاتهم وغفلتهم عن إدراك الأمور الواضحة.
أى: قل لهم يا محمد: أفمن يهدى غيره إلى الحق وهو الله - تعالى -. أحق أن يتبع فيما يأمر به وينهى عنه، أم من لا يستطيع أن يهتدى بنفسه إلا أن يهديه غيره أحق بالاتباع؟ لا شك أن الذى يهدى غيره إلى الحق أحق بالاتباع من الذى هو فى حاجة إلى أن يهديه غيره.
وقوله: { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } استفهام قصد به التعجيب من أحوالهم التى تدعو إلى الدهشة والغرابة.
أى: ما الذى وقع لكم، وما الذى أصابكم فى عقولكم حتى صرتم تشركون فى العبادة مع الله الخالق الهادى، مخلوقات لا تهدى بنفسها وإنما هى فى حاجة إلى من يخلقها ويهديها.
قال الإِمام الرازى: "واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ثم بالهداية ثانيا، عادة مطردة فى القرآن، فقد حكى - سبحانه - عن إبراهيم أنه ذكر ذلك فقال:
{ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } وعن موسى أنه قال: { رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } وأمر محمدا - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ. ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ. وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } وهو فى الحقيقة دليل شريف، لأن الإِنسان له جسد وله روح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية، فها هنا أيضا لما ذكر دليل الخلق فى الآية الأولى وهو قوله: { مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أتبعه بدليل الهداية فى هذه الآية.
وقوله: { أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ } ورد فيه ست قراءات، منها قراءة يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال، ومنها قراءة حمزة والكسائى بالتخفيف كيرمى، ومنها قراءة ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع "يهدى" فتح الياء والهاء وتشديد الدال..
والاستثناء فى قوله: { أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } مفرغ من أعم الأحوال.
والتقدير: أفمن يهدى إلى الحق أحق بالاتباع، أم من لا يستطيع الهداية إلا أن يهديه إليها غيره أحق بالاتباع؟
وجاء قوله - سبحانه - { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } باستفهامين متواليين، زيادة فى توبيخهم وتقريعهم، ولفت أنظارهم إلى الحق الواضح الذى لا يخفى على كل ذى عقل سليم.
وقوله: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً... } توبيخ آخر لهم على انقيادهم للأوهام والظنون، وتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم من إساءات.
أى: إن هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوتك يا محمد، لا يتبعون فى عقائدهم وعبادتهم لغير خالقهم سوى الظنون والأوهام التى ورثها الأبناء عن الآباء.
وخص أكثرهم بالذكر، لأن هناك قلة منهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم لا يتبعونه عنادا وجحودا وحسدا، كما قال - تعالى -
{ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } ويجوز أن يكون - سبحانه - خص أكثرهم بالذكر، للإِشارة إلى أن هناك قلة منهم تعرف الحق، وستتبعه فى الوقت الذى يريده الله - تعالى.
والتنكير فى قوله { ظنا } للتنويع. أى لا يتبع أكثرهم إلا نوعا من الظن الواهى الذى لا يستند إلى دليل أو برهان.
وقوله: { إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } استئناف مسوق لبيان شأن الظن وبطلانه.
والمراد بالظن هنا: ما يخالف العلم واليقين، والمراد بالحق: العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع.
أى: إن الظن الفاسد المبنى على الأوهام لا يغنى صاحبه شيئا من الإِغناء، عن الحق الثابت الذى لا ريب فى ثبوته وصحته.
وقوله { شيئا } مفعول مطلق أى: لا يغنى شيئا من الإِغناء، ويجوز أن يكون مفعولا به على جعل يغنى بمعنى يدفع.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } تذييل قصد به التهديد والوعيد.
أى: إن الله - تعالى - عليم بأقوالهم وأفعالهم، وسيحاسبهم عليها يوم القيامة، وسينالون ما يستحقونه من عقاب بسبب أقوالهم الباطلة. وأفعالهم الفاسدة.
قال صاحب المنار ما ملخصه: "استدل العلماء بهذه الآية على أن العلم اليقينى واجب فى الاعتقاديات، ويدخل فى الاعتقاديات الإِيمان بأركان الإِسلام وغيرها من الفرائض والواجبات القطعية، والإِيمان بتحريم المحظورات القطعية كذلك...
أما ما دون العلم اليقينى مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به فى الاعتقاد وهو متروك للاجتهاد فى الأعمال، كاجتهاد الأفراد فى الأعمال الشخصية، واجتهاد أولى الأمر فى الإدارة والسياسة، مع التقيد بالشورى وتحرى العدل..".
وبعد أن ساقت السورة الكريمة ألوانا من البراهين الدالة على وحدانية الله - تعالى -، وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن هذا القرآن من عند الله تعالى، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن القرآن الكريم، فتحدت أعداءه أن يأتوا بسورة مثله، ووصفتهم بالجهالة وسفاهة الرأى، وصورت أحوالهم ومواقفهم من دعوة الحق تصويرا بليغا. استمع إلى السورة الكريمة وهى تتحدث عن كل ذلك فتقول:
{ وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن... }