التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٣
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٤
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى ما ملخصه: "اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحى والبعثة والرسالة ثم إنه - تعالى - أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة فى أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم وينذرهم.. كان هذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين:
أحدهما: إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا، نافذ الحكم بالأمر والنهى.
والثانى: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما.
فلا جرم أنه - سبحانه - ذكر فى هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.
أما الأول: وهو إثبات الألوهية فبقوله - تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ... }.
وأما الثانى: فهو إثبات المعاد والحشر والنشر بقوله: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً... }.
فثبت أن هذا الترتيب فى غاية الحسن. ونهاية الكمال".
والمعنى: إن ربكم ومالك أمركم - الذى عجبتم من أن يرسل إليكم رسولا منكم هو الذى خلق السماوات والأرض فى مقدار ستة أيام أى أوقات.
فالمراد من اليوم معناه اللغوى وهو مطلق الوقت.
وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن تلك الأيام من أيام الآخرة التى يوم منها كألف سنة مما تعدون.
قال الآلوسى: "وقيل هى مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام، لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة فى مثل تلك المدة اليسيرة، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه".
وقال بعض العلماء: "ولا ندخل فى تحديد هذه الأيام الستة، فهى لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها، وإنما ذكرت لبيان حكمة التدبير والتقدير فى الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية.
وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله، الذى لا مصدر لإِدراكه إلا هذا المصدر، فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه، والمقصود بذكرها هو الإِشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام الذى يسير مع الكون من بدئه إلى منتهاه".
وقال سعيد بن جبير: كان الله قادرا على أن يخلق السماوات والأرض فى لمحة ولحظة. ولكنه - سبحانه - خلقهن فى ستة أيام، لكى يعلم عباده التثبت والتأنى فى الأمور.
وقوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } معطوف على ما قبله، لتأكيد مزيد قدرته وعظمته - سبحانه -.
والاستواء من معانيه اللغوية الاستقرار، ومنه قوله - تعالى -
{ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِي } أى: استقرت، ومن معانيه - أيضاً - الاستيلاء والقهر والسلطان، ومنه قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق أى: استولى عليه.
وعرش الله - كما قال الراغب - مما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم وليس كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى الله عن ذلك - لا محمولا".
وقد ذكر العرش فى القرآن الكريم فى إحدى وعشرين آية، وذكر الاستواء على العرش فى سبع آيات.
أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة إلى أنه صفة الله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به فيجب الإِيمان بها كام وردت وتفويض العلم بحقيقتها إلى الله - تعالى -.
فعن أم سلمة - رضى الله عنها - أنها قالت فى تفسير قوله - تعالى
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } ): الكيف غير معقول، والاستواء مجهول، والإِقرار به من الإِيمان، والجحود به كفر.
وقال الإِمام مالك: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقال محمد بن الحسن: اتفق الفقهاء جميعا على الإِيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.
وقال الإِمام الرازى: "إن هذا المذهب هو الذى نقول به ونختاره ونعتمد عليه".
وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرف هذه الصفة وأمثالها عن الظاهر لاستحالة حملها على ما يفيده ظاهر اللفظ، لأنه - سبحانه - مخالف للحوادث، ووجوب حملها على ما يليق به - سبحانه -.
وعليه فإن الاستواء هنا: كناية عن القهر والعظمة والغلبة والسلطان وقوله: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } استئناف مسوق لتقرير عظمته - سبحانه - ولبيان حكمة استوائه على العرش.
والتدبير معناه: النظر فى أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود.
والمراد به هنا: التقدير الجارى على وفق الحكمة التى اقتضتها إرادة الله ومشيئته.
والمراد بالأمر: ما يتعلق بأمور المخلوقات كلها من إنس وجن وغير ذلك من مخلوقاته التى لا تعد ولا تحصى.
أى أنه سبحانه يدبر أمر مخلوقاته تدبيرا حكيما، حسبما تقتضيه إرادته وعبر بالمضارع فى قوله: { يدبر } للإِِشارة إلى تجدد التدبير واستمراره، إذ أنه - سبحانه - لا يهمل شئون خلقه.
وقوله: { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } استئناف آخر مسوق لبيان تفرده فى تدبيره وأحكامه.
والشفيع مأخوذ من الشفع وهو ضم الشىء إلى مثله، وأكثر ما يستعمل فى انضمام من هو أعلى منزلة إلى من هو أدنى منه لإِعانته على ما يريده.
والاستثناء هنا مفرغ من أعم الأوقات والأحوال. أى: ما من شفيع يستطيع أن يشفع لغيره فى جميع الأوقات والأحوال إلا بعد إذنه - سبحانه -.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله - سبحانه -: { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فى ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } يعود إلى ذات الله - تعالى - الموصوفة بتلك الصفات الجليلة.
أى: ذلك الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف فى شئون خلقه وفق مشيئته، هو الله ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ولا تشركوا معه أحدا فى ذلك.
ثم ختم - سبحانه - الآية بالأمر بالتذكر فقال: { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أى: أتعلمون أن الله - تعالى - هو خالقكم وهو القادر على كل شىء، ومع ذلك تستبعدون أن يكون الرسول بشرا، فهلا تذكرتم قدرة الله وحكمته حتى تثوبوا إلى رشدكم، وتتبعوا الحق الذى جاءكم به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - : وإيثار { تَذَكَّرُونَ } على تفكرون للإِيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذى لا يفتقر إلى عمق فى التفكير والبحث والتأمل. إذ أن مظاهر قدرة الله وعظمته نراها واضحة جلية فى الأنفس والآفاق.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله - تعالى - وبالغ حكمته، ونفاذ أحكامه حتى يخلص له الناس العبادة والطاعة.
ثم بين - سبحانه - أن مرجع العباد جميعا إليه، وأنه سيجازى كل إنسان بما يستحق. فقال - تعالى - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً }.
أى: إلى الله - تعالى - وحده مرجعكم جميعا بعد الموت ليحاسبكم على أعمالكم، وقد وعد الله بذلك وعدا صدقا، ولن يخلف الله وعده.
قال أبو حيان: وانتصب { وَعْدَ ٱللَّهِ } و { حَقّاً } على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة، والتقدير وعد الله وعداً، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل، وذلك كقوله "صبغة الله" و "صنع الله" والتقدير فى { حقا }: حق ذلك حقا".
وقوله: { إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } كالتعليل لما أفاده قوله - سبحانه - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } فإن غاية البدء والإِعادة هو الجزاء المناسب على الأعمال الدنيوية.
أى: إن شأنه - سبحانه - أن يبدأ الخلق عند تكوينه ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى بعد موته وفنائه.
ثم بين - سبحانه - الحكمة من الإِعادة بعد الموت فقال: { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }.
والقسط - كما يقول الراغب - النصيب بالعدل. يقال: قسط الرجل إذا جار وظلم.
ومنه قوله - تعالى -
{ وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } ويقال أقسط فلان إذا عدل، ومنه قوله - تعالى - { وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } والحميم: الماء الذى بلغ أقصى درجات الحرارة، قال - تعالى - { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أى: فعل ما فعل سبحانه من بدء الخلق وإعادتهم ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بعدله الجزاء الطيب الذى أعده لهم، وأما الذين كفروا فيجزيهم - أيضاً - بعدله ما يستحقونه من شراب حميم يقطع أمعاءهم، ومن عذاب مؤلم لابدانهم، وذلك بسبب كفرهم واستحبابهم العمى على الهدى.
وقوله: { بِٱلْقِسْطِ } حال من فاعل { ليجزي } ليجزيهم ملتبسا بالقسط.
ويصح أن يكون المعنى: فعل ما فعل ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن بسبب عدلهم وتمسكهم بتكاليف دينهم، وأما الذين كفروا فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم.
قال الجمل ما ملخصه: وقال - سبحانه - { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ... } بتغيير فى الأسلوب للمبالغة فى استحقاقهم للعقاب. وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإِبداء والإِعادة هو الإِثابة، والعذاب وقع بالعرض. وأنه - تعالى - يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم.
وبعد أن بين - سبحانه - جانبا من مظاهر قدرته فى خلق السماوات والأرض، أتبع ذلك بذكر مظاهر أخرى لقدرته، تتمثل فى خلق الشمس والقمر والليل والنهار فقال - تعالى -:
{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ... }.