التفاسير

< >
عرض

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
٨
وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ
٩
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ
١٠
إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١١
-هود

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى ما ملخصه: الأمة: اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه: فالأمة تكون الجماعة، كقوله - تعالى -: { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ .. } والأمة: أيضا أتباع الأنبياء عليهم السلام، والأمة: الرجل الجامع للخير الذى يقتدى به، كقوله - تعالى - { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } والأمة: الدين والملة، كقوله - تعالى -: { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } والأمة: الحين والزمان كقوله - تعالى -: { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } والأمة: القامة وهو طول الإِنسان وارتفاعه، يقال من ذلك: فلان حسن الأمة، أى القامة، والأمة: الرجل المنفرد بدينه وحده، لا يشركه فيه أحد. قال - صلى الله عليه وسلم - "يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده" والأمة: الأم. يقال: "هذه أمة زيد، أى أم زيد..." والمراد بالأمة هنا: الحين والزمان والمدة.
والمعنى: ولئن أخرنا - بفضلنا وكرمنا - عن هؤلاء المشركين "العذاب" المقتضى لجحودهم لآياتنا، وتكذيبهم لرسلنا "إلى أمة معدودة" أى: إلى وقت معين من الزمان على حساب إرادتنا وحكمتنا: "ليقولن" على سبيل التهكم والاستهزاء، واستعجال العذاب، "ما يحبسه" أى: ما الذى جعل هذا العذاب الذى حذرنا منه محمد - صلى لله عليه وسلم - محبوسا عنا، وغير نازل بنا..
ولا شك أن قولهم هذا، يدل على بلوغهم أقصى درجات الجهالة والطغيان، حيث قابلوا رحمة الله - تعالى - المتمثلة هنا فى تأخير العذاب عنهم، بالاستهزاء والاستعجال، ولذا رد الله - تعالى - عليهم بقوله: { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أى: ألا إن ذلك العذاب الذى استعجلوه واستخفوا به، يوم ينزل بهم، لن يصرفه عنهم صارف، ولن يدفعه عنهم دافع، بل سيحيط بهم من كل جانب، بسبب استهزائهم به وإعراضهم عمن حذرهم منه.
واللام فى قوله { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ } موظئة للقسم، وجواب القسم قوله "ليقولن ما يحبسه".
والأقرب إلى سياق الآية أن يكون المراد بالعذاب هنا: عذاب الاستئصال الدنيوى، إذ هو الذى استعجلوا نزوله، أما عذاب الآخرة فقد كانوا منكرين له أصلا، كما حكى عنهم - سبحانه - فى الآية السابقة فى قوله:
{ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } قال الآلوسى: والظاهر بأن المراد العذاب الشامل للكفرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة قال: لما نزل { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا، فتناهى القوم قليلا، ثم عادوا إل أعمالهم السوء: فأنزل الله - تعالى - { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فقال أناس من أهل الضلالة: هذا أمر الله - تعالى - قد أتى، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم مكر السوء، فأنزل الله هذه الآية".
وفى قوله - سبحانه - { إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } إيماء إلى أن تأخير العذاب عنهم ليس لمدة طويلة، لأن ما يحصره العد: جرت العادة فى أساليب العرب أن يكون قليلا، ويؤيد ذلك أنه بعد فترة قليلة من الزمان نزل بهم فى غزوة بدر القتل الذى أهلك صناديهم، والأسر الذى أذل كبرياءهم.
وافتتحت جملة { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } بأداة الاستفتاح { ألا } للاهتمام بمضون الخبر، وللإِشارة إلى تحقيقه، وإدخال الروع فى قلوبهم.
وعبر بالماضى { حاق } مع أنه لم ينزل بهم بعد، للإِشارة، إلى أنه آت لا ريب فيه، عندما يأذن الله - تعالى - بذلك.
ثم بين - سبحانه - جانبا من طبيعة بنى آدم إلا من عصم الله فقال - تعالى - { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ... }
والمراد بالإِنسان هنا الجنس على أرجح الأقوال، فيشمل المسلم وغيره، بدليل الاستثناء الآتى بعد ذلك فى قوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }
قال الفخر الرازى ما ملخصه: المراد بالإِنسان هنا مطلق الإِنسان ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه - تعالى - استثنى منه قوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن الإِنسان المذكور فى هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر.
الثانى: أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله - سبحانه -:
{ وَٱلْعَصْرِ. إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ. إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ... } الثالث: أن مزاج الإِنسان مجبول على الضعف والعجز. قال ابن جريج فى تفسير هذه الآية: "يا بن آدم إذا نزلت بك نعمة من الله فأنت كفور، فإذا نزعت منك فيؤوس قنوط".
وقيل المراد بالإنسان هنا جنس الكفار فقط، لأن هذه الأوصاف تناسبهم وحدهم.
والمراد بالرحمة هنا: رحمة الدنيا، وأطلقت على أثرها وهو النعمة كالصحة والغنى والأمان وما يشبه ذلك من ألوان النعم.
واليؤوس والكفور: صيغتا مبالغة للشخص الكثير اليأس، والكفر، والقنوط: الشديد الجحود لنعم الله - تعالى - يقال: يئس من الشئ ييأس، إذا قنط منه.
والمعنى: ولئن منحنا الإِنسان - بفضلنا وكرمنا - بعض نعمنا، كالصحة والغنى والسلطان والأمان { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } أى: ثم سلبناها منه، لأن حكمتنا تقتضى ذلك.
{ إنه } فى هذه الحالة { لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } أى: لشديد اليأس والقنوط من أن يرجع إليه ما سلب منه أو مثله، ولكثير الكفران والجحود لما سبق أن تقلب فيه من نعم ومنن.
قال الشوكانى: وفى التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه: "لأن الإِذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم".
وفى قوله: "ثم نزعناها منه" إشارة إلى شدة تعلقه بهذه النعم، وحرصه على بقائها معه.
وجملة { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } جواب القسم، وأكدت بإن وباللام، لقصد تحقيق مضمونها، وأنه حقيقة ثابتة.
وهى تصوير بليغ صادق لما يعترى نفس هذا الإِنسان عندما تسلب منه النعمة بعد أن ذاقها، - فهو - لقلة إيمانه وضعف ثقته بربه - قد فقد كل أمل فى عودة هذه النعمة إليه، ولكأن هذه النعمة التى سلبت منه لم يرها قبل ذلك.
ثم بين - سبحانه - حالة هذا الإِنسان اليؤوس الكفور، عندما تأتيه السراء بعد الضراء فقال: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ }.
والنعماء: النعمة التى يظهر أثرها على صاحبها، واختبر لفظ النعماء لمقابلته للضراء.
والضراء: ما يصيب الإِنسان من مصائب يظهر أثرها السئ عليه.
والمراد بالسيئات: الأضرار التى لحقته كالفقر والمرض.
والمعنى: ولئن أذقنا هذا الإِنسان اليؤوس الكفور { نعماء } بعد ضراء مسته كصحة بعد مرض، وغنى بعد فقر، وأمن بعد خوف، ونجاح بعد فشل.
{ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ } أى: ليقولن فى هذه الحالة الجديدة ببطر وأشر، وغرور وتكبر، لقد ولت المصائب عنى الأدبار، ولن تعود إلى.
وعبر - سبحانه - فى جانب الضراء بالمس، للإِشارة إلى أن الإِصابة بها أخف مما تذوقه من نعماء، وأن لطف الله شامل لعباده فى كل الأحوال.
وجملة { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } جواب القسم.
أى: إنه لشديد الفرح والبطر بالنعمة: كثير التباهى والتفاخر بما أعطى منها، مشغول بذلك عن القيام بما يجب عليه نحو خالقه من شكر وثناء عليه - سبحانه -.
وإنها - أيضا - لصورة صادقة لهذا الإِنسان العجول القاصر، الذى يعيش فى لحظته الحاضرة، فلا يتذكر فيما مضى، ولا يتفكر فيما سيكون عليه حاله بعد الموت، ولا يعتبر بتقلبات الأيام، فهو يؤوس كفور إذا نزعت منه النعمة، وهو بطر فخور إذا عادت إليه، وهذا من أسوأ ما تصاب به النفس الإِنسانية من أخلاق مرذولة.
وقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ.. } استثناء من هؤلاء الناس الذين لا يصبرون عند الشدة، ولا يشكرون عند الرخاء.
أى: إلا الذين صبروا على النعمة كما صبروا على الشدة، وعملوا فى الحالتين الأعمال الصالحات التى ترضى الله - تعالى -.
{ أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بذلك { لَهُمْ } من الله - تعالى - { مَّغْفِرَةٌ } عظيمة تمسح ذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } منه - سبحانه - لهم. جزاء صبرهم الجميل، وعملهم الصالح.
وفى الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"والذى نفسى بيده، لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن" .
ثم بين - سبحانه - بعض أقوال المشركين، التى كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يضيق بها صدره، ويحزن منها نفسه، فقال - تعالى -:
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ... }.