التفاسير

< >
عرض

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
١٢
-هود

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى -رحمه الله -: روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون: "ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك. فقال: لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية".
ولفظ { لعل } - كما يقول الآلوسى - للترجى، وهو يقتضى التوقع، ولا يلزم من توقع الشئ وقوعه ولا ترجح وقوعه، لجواز أن يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه - صلى الله عليه وسلم - مما لا يليق بمقام النبوة، لأن المانع منه هنا ثبوت عصمته - صلى الله عليه وسلم - عن كتم شئ أمر بتبليغه... والمقصود بهذا الأسلوب هنا تحريضه - صلى الله عليه وسلم - وتهييج داعيته لأداء الرسالة، ويقال نحو ذلك فى كل توقع نظير هذا التوقع".
و { تارك } اسم فاعل من الفعل ترك، و { ضائق } اسم فاعل من الفعل ضاق، وهو معطوف على { تارك }.
والمراد ببعض ما يوحى إليه - صلى الله عليه وسلم - فى قوله - سبحانه - { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ }: ما أنزل عليه: من قرآن فيه استهزاء بآلهتهم، وتسفيه لعقولهم التى استساغت أن تشرك مع الله - تعالى - فى عبادتها آلهة أخرى".
والضمير المجرور فى قوله - سبحانه - { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } يعود إلى بعض الموحى به، وقيل يعود للتبليغ، وقيل للتكذيب.
وجملة { أَن يَقُولُواْ } فى محل نصب على أنها مفعول لأجله، أى: كراهة أو خشية أن يقولوا.
والكنز: يطلق على المال الكثير المجموع بعضه إلى بعض سواء أكان فى بطن الأرض أم فى ظهرها، ومرادهم بإنزاله هنا: أن ينزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السماء مال كثير يغنيه هو وأصحابه، ويجعلهم فى رغد من العيش، بدل ما يبدو على بعضهم من فقر وفاقة..
والمعنى: ليس خافيا علينا - أيها الرسول الكريم - ما يفعله المشركون معك، من تكذيب لدعوتك، ومن جحود لرسالتك، ومن مطالب متعنته يطلبونها منك...
ليس خافيا علينا شيئا من ذلك، ولعلك إزاء مسالكهم القبيحة هذه، تارك تبليغ بعض ما يوحى إليك، وهو ما يثير غضبهم، وضائق صدرك بهذا التبليغ، كراهة تكذيبهم لوحى الله، واستهزائهم بدعوتك، وقولهم لك على سبيل التعنت: هلا أنزل إليك من السماء مال كثير تستغنى به وتغنى أتباعك، وهلا كان معك ملك يصاحبك فى دعوتك، ويشهد أمامنا بصدقك ويؤيدك فى تحصيل مقصودك.
لا - أيها الرسول الكريم - لا تترك شيئا من تبليغ ما أمرك الله بتبليغه لهؤلاء المشركين، ولا يضيق صدرك بأفعالهم الذميمة، وبأقوالهم الباطلة، بل واصل دعوتك لهم إلى طريق الحق، فما عليك إلا الإِنذار، أما نحن فإلينا إيابهم، وعلينا حسابهم.
وعبر - سبحانه - عن تأثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مواقفهم المتعنتة باسم الفاعل { ضائق } لا بالصفة المشبهة "ضيق" لمراعاة المقابل وهو قوله { تارك }، وللإِشارة إلى أن هذا الضيق مما يعرض له - صلى الله عليه وسلم - أحيانا، وليس صفة ملازمة له، لأن اسم الفاعل يقتضى الحدوث والانقطاع، بخلاف الصفة المشبهة فتقتضى الثبات والدوام.
وأبرز - سبحانه - هنا صفة الإِنذار للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أن وظيفته الإِنذار والتبشير، لأن المقام هنا يستوجب ذلك، إذ أن هؤلاء المشركين قد تجاوزوا كل حد فى الإِساءة إليه - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله - سبحانه - { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } تذييل قصد به زيادة تثبيته وتحريضه على المضى فى تبليغ دعوته.
أى: سر فى طريقك - أيها الرسول الكريم - غير مبال بما يصدر عنهم من مضايقات لك، والله - تعالى - حافظ لأحوالك وأحوالهم، وسيجازيهم بالجزاء الذى يتناسب مع جرائمهم وكفرهم.
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تعبر أكمل تعبير عن الفترة الحرجة التى نزلت فيها هذه السورة الكريمة، فقد سبق أن قلنا عند التعريف بها، إنها نزلت فى الفترة التى أعقبت وفاة النصيرين الكبيرين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهما أبو طالب وخديجة - رضى الله عنها - وكانت هذه الفترة من أشق الفترات على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث تكاثر فيها إيذاء المشركين له ولأصحابه...
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة تحث النبى - صلى الله عليه وسلم - على الثبات والصبر، وعلى تبليغ ما يوحى إليه، مع عدم المبالاة بما يضعه المشركون فى طرقه من عقبات..
هذا، وقد سبق أن بينا عند التعريف بهذه السورة - أيضا - أن من العلماء من يرى أن هذه الآية مدنية، ولعلك معى - أيها القارئ الكريم - فى أنه لا يوجد أى دليل نقلى أو عقلى يؤيد ذلك، بل الذى تؤيده الأدلة ويؤيده سبب النزول أن الآية مكية كبقية السورة.
وهناك أيات أخرى مكية تشبه هذه الآية فى أسلوبها وموضوعها، ومن هذه الآيات قوله - تعالى -:
{ وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا... } ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك زعما آخر من مزاعمهم الكثيرة، وهو دعواهم أن القرآن مفترى، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من أمثال هذا القرآن فى زعمهم، فقال - تعالى - :
{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ... }.