التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ
٦١
قَالُواْ يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
٦٢
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ
٦٣
وَيٰقَوْمِ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ
٦٤
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
٦٥
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ
٦٦
وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٦٧
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ
٦٨
-هود

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

هذه قصة صالح - عليه السلام - مع قومه كما ذكرتها هذه السورة، وقد وردت هذه القصة فى سور أخرى منها سورة الأعراف، والشعراء، والنمل، والقمر.
وصالح - عليه السلام - ينتهى نسبه إلى نوح - عليه السلام - فهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود.. بن نوح.
وثمود: اسم للقبيلة التى منها صالح، سميت باسم جدها ثمود، وقيل سميت بذلك لقلة مائها، لأن الثمد هو الماء القليل.
وكانت مساكنهم بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - وهو مكان يقع بين الحجاز والشام إلى وادى القرى، وموقعه الآن - تقريبا - المنطقة التى بين الحجاز وشرق الأردن، وما زال المكان الذى كانوا يسكنونه يسمى بمدائن صالح حتى اليوم.
وقبيلة صالح من القبائل العربية، وكانوا خلفاء لقوم هود - عليه السلام فقد قال - سبحانه -:
{ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً... } وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله - تعالى - إليهم صالحاً ليأمرهم بعبادة الله وحده.
وقوله: { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ.. } معطوف على ما قبله من قصتى نوح وهود - عليهما السلام -.
أى: وأرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم فى النسب والموطن صالحا - عليه السلام - فقال لهم تلك الكلمة التى قالها كل نبى لقومه: يا قوم اعبدوا الله وحده، فهو الإِله الذى خلقكم ورزقكم، وليس هناك من إله سواه يفعل ذلك.
ثم ذكرهم بقدرة الله - تعالى - وبنعمه عليهم فقال: { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا }
والإِنشاء: الإِيجاد والإِحداث للشئ على غير مثال سابق.
واستعمركم من الإِعمار ضد الخراب فالسين والتاء للمبالغة. يقال: أعمر فلان فلانا فى المكان واستعمره، أى جعله يعمره بأنواع البناء والغرس والزرع.
أى: اعبدوا الله - تعالى - وحده، لأنه - سبحانه - هو الذى ابتدأ خلقكم من هذه الأرض، وأبوكم آدم ما خلق إلا منها وهو الذى جعلكم المعمرين لها، والساكنين فيها
{ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً... } قال - تعالى - فى شأنهم.. { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ. فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فأنت ترى أن صالحا - عليه السلام - قد ذكرهم بجانب من مظاهر قدرة الله ومن أفضاله عليهم، لكى يستميلهم إلى التفكر والتدبر، وإلى تصديقه فيما يدعوهم إليه.
والفاء فى قوله { فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } للتفريع على ما تقدم.
أى: إذا كان الله - تعالى - هو الذى أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فعليكم أن تخلصوا له العبادة، وأن تطلبوا مغفرته عما سلف منكم من ذنوب.
ثم تتوبوا إليه توبة صادقة: تجعلكم تندمون على ما كان منكم فى الماضى من شرك وكفر، وتعزمون على التمسك بكل ما يرضى الله - تعالى - فى المستقبل.
ثم فتح أمامهم باب الأمل فى رحمة الله - تعالى - فقال: { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }
أى: إن ربى قريب الرحمة من المحسنين، مجيب دعاء الداعين المخلصين، فاقبلوا على عبادته وطاعته، ولا تقنطوا من رحمة الله.
ثم حكى القرآن ما رد به قوم صالح عليه فقال: { قَالُواْ يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا.. }.
أى: قال قوم صالح له بعد أن دعاهم لما يسعدهم: يا صالح لقد كنت فينا رجلا فاضلا نرجوك لمهمات الأمور فينا لعلمك وعقلك وصدقك.. قبل أن تقول ما قلته، أما الآن وبعد أن جئتنا بهذا الدين الجديد فقد خاب رجاؤنا فيك، وصرت فى رأينا رجلا مختل التفكير.
فالإِشارة فى قوله { قَبْلَ هَـٰذَا } إلى الكلام الذى خاطبهم به حين بعثه الله إليهم.
والاستفهام فى قولهم { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } للتعجيب والإِنكار.
أى: أجئتنا بدعوتك الجديدة لتنهانا عن عبادة الآلهة التى كان يعبدها آباؤنا من قبلنا؟
لا، إننا لن نستجيب لك، وإنما نحن قد وجدنا آباءنا على دين وإننا على آثارهم نسير.
ثم ختموا ردهم عليه بقولهم: { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ }.
ومريب: اسم فاعل من أراب. تقول: أربت فلانا فأنا أريبه، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة أى: القلق والاضطراب.
أى: لن نترك عبادة الأصنام التى كان يعبدها آباؤنا، وإننا لفى شك كبير، وريب عظيم من صحة ما تدعونا إليه.
فانظر كيف قابل هؤلاء السفهاء الدعوة إلى الحق بالتصميم على الباطل، ولكن صالحا - عليه السلام - لم ييأس بل يرد عليهم بأسلوب حكيم فيقول:
{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ }.
أى قال صالح - عليه السلام - لقومه: يا قوم أخبرونى إن كنت على حجة واضحة من ربى ومالك أمرى.
{ وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } أى: وأعطانى من عنده لا من عند غيره رحمة عظيمة حيث اختارنى لحمل رسالته. وتبليغ دعوته.
وجملة { فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } جواب الشرط وهو قوله { إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً }.
أى: إذا كان الله - تعالى - قد منحنى كل هذه النعم، وأمرنى بأن أبلغكم دعوته فمن ذا الذى يجيرنى ويعصمنى من غضبه، إذا أنا خالفت أمره أو قصرت فى تبليغ دعوته، احتفاظا برجائكم فى، ومسايرة لكم فى باطلكم؟
لا، إننى سأستمر فى تبليغ ما أرسلت به إليكم، ولن يمنعنى عن ذلك ترغيبكم أو ترهيبكم.
وقوله { فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } تصريح منه بأن ما عليه هو الحق الذى لا يقبل الشك أو الريب، وأن مخالفته توصل إلى الهلاك والخسران.
والتخسير: مصدر خسر، يقال خسر فلان فلانا إذا نسبه إلى الخسران. أى: فما تزيدوننى بطاعتكم ومعصية ربى غير الوقوع فى الخسران، وغير التعرض لعذاب الله وسخطه وحاشاى أن أخالف أمر ربى إرضاء لكم.
فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه صالح - عليه السلام - من إيمان عميق بالله - تعالى -، ومن ثبات على دعوته ومن حرص على طاعته - سبحانه -.
ثم أرشد صالح - عليه السلام - إلى المعجزة الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه فقال:
{ وَيٰقَوْمِ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً.. } أى: معجزة، واضحة دالة على صدقى وفى إضافة الناقة إلى الله - تعالى - تعظيم لها وتشريف لحالها، وتنبيه على أنها ناقة مخصوصة ليست كغيرها من النوق التى تستعمل فى الركوب والنحر وغيرهما. لأن الله - تعالى - قد جعلها معجزة لنبيه صالح - عليه السلام - ولم يجعلها كغيرها.
وقد ذكر بعض المفسرين من صفات هذه الناقة وخصائصها. ما لا يؤيده نقل صحيح، لذا أضربنا عن كل ذلك صفحا، ونكتفى بأن نقول: بأنها كانت ناقة ذات صفات خاصة مميزة، تجعل قوم صالح يعلمون عن طريق هذا التمييز لها عن غيرها أنها معجزة دالة على صدق نبيهم - عليه السلام - فيما يدعوهم إليه.
وقوله: { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } أمر لهم بعدم التعرض لها بسوء وتحذير لهم من نتائج مخالفة أمره.
أى: اتركوا الناقة حرة طليقة تأكل فى أرض الله الواسعة؛ ومن رزقه الذى تكفل به لكل دابة، واحذروا أن تمسوها بشئ من السوء مهما كان قليلا، فإنكم لو فعلتم ذلك عرضتم أنفسكم لعذاب الله العاجل القريب.
والتعبير بقوله { فَيَأْخُذَكُمْ } بفاء التعقيب وبلفظ الأخذ، يفيد سرعة الأخذ وشدته، لأن أخذه - سبحانه - أليم شديد.
ولكن قوم صالح - عليه السلام - لم يستمعوا إلى تحذيره، بل قابلوه بالطغيان والعصيان، { فَعَقَرُوهَا } أى: فعقروا الناقة
{ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } والفاء معطوفة على محذوف: أى فخالفوا ما نهاهم عنه نبيهم فعقروها أى نحروها وأصل العقر: قطع عرقوب البعير، ثم استعمل فى النحر لأن ناحر البعير يعقله ثم ينحره فقال لهم صالح - عليه السلام - بعد عقرها { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ }.
والتمتع: الانتفاع بالمتاع، وهو اسم لما يحتاج إليه الإِنسان فى هذه الحياة من مأكل ومشرب وغيرهما.
والمراد بدارهم: أماكن سكناهم التى يعيشون فيها.
أى: قال لهم نبيهم بعد نحرهم للناقة: عيشوا فى بلدكم هذا، متمتعين بما فيه من نعم لمدة ثلاثة أيام: فقط، فهى آخر ما بقى لكم من متاع هذه الدنيا، ومن أيام حياتكم.
{ ذلك } الوعد بنزول العذاب بكم بعد هذه المدة القصيرة.
{ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } فيه لأنه صادر من الله - تعالى - الذى لا يخلف وعده.
وعبر عن قرب نزول العذاب بهم بالوعد على سبيل التهكم بهم.
قال الجمل: "ومكذوب" يجوز أن يكون مصدراً على وزن مفعول، وقد جاء منه ألفاظ نحو: المجلود والمعقول والمنشور والمغبون، ويجوز أن يكون اسم مفعول على بابه وفيه تأويلان: أحدهما: غير مكذوب فيه، ثم حذف حرف الجر فاتصل الضمير مرفوعاً مستتراً فى الصفة ومثله: يوم مشهود. والثانى: أنه جعل هو نفسه غير مكذوب،لأنه قد وفى به، وإذا وفى به فقد صدق".
ولقد تحقق ما توعدهم به نبيهم، فقد حل بهم العذاب فى الوقت الذى حدده لهم، قال - تعالى - { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } أى: فلما جاء أمرنا بإنزال العذاب بهم فى الوقت المحدد.
{ نَجَّيْنَا صَالِحاً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } أى برحمة عظيمة كائنة منا.
ونجيناهم أيضاً { وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ } أى: من خزى وذل ذلك اليوم الهائل الشديد الذى نزل فيه العذاب بالظالمين من قوم صالح - عليه السلام - فأبادهم.
فالتنوين فى قوله { يومئذ } عوض عن المضاف إليه المحذوف.
وقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ } تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين عما أصابهم من أذى.
أى: إن ربك - أيها الرسول الكريم - هو القوى الذى لا يعجزه شئ، العزيز الذى لا يهون من يتولاه ويرعاه، فلا تبتئس عما أصابك من قومك، فربك قادر على أن يفعل بهم، ما فعله بالظالمين السابقين من أمثالهم.
ثم صور القرآن الكريم حال هؤلاء الظالمين تصويرا يدعو إلى الاعتبار والاتعاظ فقال: { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ. كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ }
والصيحة: الصوت المرتفع الشديد. يقال: صاح فلان إذا رفع صوته بقوة. وأصل ذلك تشقيق الصوت، من قولهم: انصاح الخشب والثوب، إذا انشق فسمع له صوت.
و { جاثمين }: من الجثوم وهو للناس وللطير بمنزلة البروك للإِبل. يقال: جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم.. إذا وقع على صدره، ولزم مكانه فلم يبرحه.
ويغنوا فيها: أى يقيموا فيها. يقال: غنى فلان بالمكان يغنى إذا أقام به وعاش فيه فى نعمة ورغد.
أى: وأخذ الذين ظلموا من قوم صالح - عليه السلام - عن طريق الصحة الشديدة التى صيحت بهم بأمر الله - تعالى - { فَأَصْبَحُواْ } بسببها { فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أى: هلكى صرعى، ساقطين على وجوههم، بدون حركة...
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } أى: كأن هؤلاء القوم الظالمين لم يقيموا فى ديارهم عمرا طويلاً وهم فى رخاء من عيشهم.
{ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } أى: ألا إن هؤلاء الظالمين من قبيلة ثمود، كفروا نعمة ربهم وجحودها؛ ألا بعداً وسحقاً وهلاكاً لهؤلاء المجرمين من قبيلة ثمود.
وفى تكرار حرف التنبيه { ألا } وتكرار لفظ { ثمود } تأكيد لطردهم من رحمة الله، وتسجيل لما ارتكبوه من منكرات.
وبذلك انطوت صفحة أولئك الظالمين من قوم صالح - عليه السلام - كما انطوت من قبلهم صحائف قوم نوح وهود - عليهما السلام -.
ومن أبرز العبر والعظات التى نأخذها من قصة صالح مع قومه كما وردت فى هذه السورة الكريمة: أن النفوس إذا انطمست، والعقول إذا انتكست، تعجب مما لا عجب فيه؛ وتستنكر ما هو حق وصدق، وتسئ ظنها بالشخص الذى كان بالأمس القريب موضع رجائها وثقتها، لأنه أتاهم بما لم يألفوه ... حتى ولو كان ما أتاهم به فيه سعادتهم وهدايتهم...
فصالح - عليه السلام - كان مرجوا فى قومه قبل أن يكون نبياً، فلما صار نبياً وبلغهم ما أرسله الله به، خاب أملهم فيه، وساء ظنهم به، وجاهروه بالعداوة والعصيان... مع أنه أتاهم بما يسعدهم...
وصدق الله إذ يقول:
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } هذا، وقد وردت أحاديث تصرح بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد مر على ديار ثمود وهو فى طريقه إلى غزوة تبوك.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن ابن عمر قال:
"لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لئلا يصيبكم ما أصابهم. ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادى" .
ثم ساقت السورة الكريمة جانباً من قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الملائكة، الذين جاءوه بالبشارة، فقال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ... }.